ظمأ مزمن للحوار

أذهلني -منذ فترة – أن أرى في أيدي طالباتي الناشئات رواية، تتناقلها الأيدي، وتتخطف غلافها العيون، في الوقت الذي تجهل فيه هؤلاء الطالبات أبسط العناوين الهامة في دروسهن الأساسية. وقد زال ذهولي حين اطلعت على الرواية، وكانت “بنات الرياض”، التي كانت رؤيتها -فترة ظهورها – في أيدي الطالبات في حرم الجامعة وقاعاتها أمرا مألوفا. زال ذهولي حين اكتشفت سبب هذا الإقبال والشغف، فهو لا يمت بأي سبب للقراءة الفنية الخالصة، ولا للفعل الثقافي الواعي، إنما كان الأمر أشبه بوقع حجر ثقيل، في بحيرة ساكنة. وهذا الجانب الاجتماعي الثقافي في آن، هو ما تناولته بالتفصيل والتحليل، قراءة الدكتور عبد الله الغذامي للرواية، في دلالاتها النسقية، عبر حلقات في المجلة الثقافية، فما الذي صدم عيون الشابات الصغيرات وأقلقهن في هذه الرواية؟ أليس هو الحوار الجريء، الذي يمس المناطق الممنوعة، ويقفز فوق الأسوار، المحرم الاقتراب منها في حياتهن؟
“بنات الرياض”، “ملامح”، “القرآن المقدس”، وقبلها ثلاثية الروائي “تركي الحمد”، وعصفورية القصيبي، وكل ما تحدثت عنه صحيفة الرياض تحت عنوان: “الكتب الصادمة”. إنه خط متنام في المشهد الروائي السعودي، ينتهج التقنية التي عبرت عنها الصحيفة بالصدمة. وهذه الصدمة ليست إلا مشاهد حوارية قوية، تجرأت على كشف الحجب عن المكبوت، والممنوع. ومن ثم، ليس هذا الإقبال على تعاطيها، عبر الإقبال على هذا الصنف من الروايات، إلا تعبيرا عن ظمأ مزمن للحوار.
يتزايد إدراك المجتمع السعودي اليوم لحاجته للحوار، ولكل ما يدعم ثقافة الحوار، لا سيما في ظل استمرار ظاهرة التعبير عن الاختلاف بالعنف، وازدياد ضحايا هذه الظاهرة، من شباب هذا الوطن. وقد فعّلت الدولة هذا الإدراك بخلق بيئة رسمية للحوار واحتضانها، في ملتقيات دورية منظمة وواسعة النطاق، غير أن الفعل الاجتماعي – كما سبق وتحدثنا – لا ينفك عن بقية وجوه النشاط البشري. وإذا كان الحاجز السياسي المحتمل عائقا أكبر للحوار، يسعى إلى أن يكون بوابة مشرعة له، فلا غرابة أن تكون الثقافة هي ميدان الحوار وساحته، والأدب قداحته العجيبة، ومن هذا الجانب سأتحدث عن الرواية، ليس من باب الفن فحسب، بل كفعل اجتماعي مؤثر، ودال.
عبرت الرواية السعودية – غالبا – عن ذلك الظمأ المتجذر للحوار، في صلب نسيج مجتمعنا. يتبين هذا بوضوح أكبر بمراجعة تاريخية سريعة، لمنجز الرواية السعودية، منذ نشأتها وحتى الآن. سنجد أن الرابط بين ما يكتب الآن وبين ما كتبه الرواد، هو رابط الرغبة في الخروج من حبس الفكر عن حركته الفطرية، الرغبة في ممارسة الاختلاف البشري الفطري، التي يحظرها المجتمع بأكثر من ذريعة، بأساليب الأدب. الرواية السعودية منذ نشأت تدور في هذا المضمار وحول هذه الفكرة، فكرة قبول تعدد الأصوات، والضيق من سلطة الصوت الواحد. تعلن هذه الفكرة حينا وتخبئها حينا، وتلمح بها بخجل أحيانا أخرى، وتدخلها في تلافيف من اللاوعي والمتاهات الرمزية أحيانا أخرى وأخرى. بكل الطرق أراد الكاتب السعودي أن يتم الاعتراف بثقافة الحوار وبداهة التعدد، وكانت الرواية أفضل قناة للتعبير عن هذه الرغبة. هكذا كان شباب شقة الحرية، ونساء قماشة العليان، قرويي عبده خال، شخصيات تركي الحمد المتحولة، وأبطال منيف الإشكاليين.
وفي تصوري، تسير الرواية السعودية، في طريق الرواية الذي خلقت له وفيه، بوصفها فعلا اجتماعيا متوسلا بالأدب، وفنا اجتماعي النشأة والمصب، في تحوّل وتحويل مستمر ومؤثر لوعي المجتمع. يفترض أن تمهد الرواية ذهن هؤلاء القراء المتكاثرين، للوعي بظاهرة تعدد الأصوات، التي هي عمودها الفلسفي ومرتكزها المنطقي والفني. ويقتضي تعدد الأصوات اندماجها في حوار مستمر، وتفاعلها شتى أشكال التفاعل. لا بد من الصدام والاحتدام، وهذا ما تمثله في تصوري تقنية الصدمة، التي تعيشها الرواية المحلية حاليا، ثم نطمح ونتوقع أن تنضج وتعبر إلى مرحلة المعالجة الفنية الناضجة لإشكاليات البطل الروائي، الذي هو اشتقاق ونمذجة لقضايا الإنسان العادي.
كيف ستدعم الرواية ولادة الحوار وتنميه؟ الرواية تطرح الديالوج الاجتماعي في صوره المحتملة كلها، ويفترض أن تؤثر اجتماعيا سواء بطرحها النموذج للقارئ، أو بدمج القارئ في فعل الحوار، وإدخاله في هذا الديالوج الحي والمتنامي، حتى يعتاده أسلوب تفكير ومن ثم أسلوب حياة. أيضا الحوار الذي تثيره الروايات المفردة حول كل واحدة تصدر، فنيا وشعبيا، هذا الحوار وحده بمثابة تمرين للذهن على القبول ببداهة تعدد الأصوات، وممارسة بشريته عبر هذا الفعل البشري الراقي. وقراء الرواية اليوم شريحة واسعة من المجتمع لا سيما من الشباب، وهذا يزيد من تطلعاتنا بشأن الرواية والحوار.
وإذا كان العالم كله يجمع على أن الحوار حل لجميع مشاكله، ويسعى لتفعيل الحوار بشكل واسع وعملي، فنحن أحوج ما نكون لتأصيل ثقافة الحوار والوعي بآلياته، نظرا لفقر تراثنا الثقافي والاجتماعي في هذا الشأن. نحن ما زلنا نعاني مرحلة الولادة المتعسرة للحوار، الذي أدركنا قيمته متأخرين، فما أحوجنا لأن ندعمه بكل طريقة ممكنة، بأن نشجع كل أشكال التفكير، والنقد الحواري العميق، كما تمثله الرواية في أثرى صوره، وأغناها بالحياة.

*الوطن 3/9/2006

ربما يعجبك أيضا