سردنة الذات/ شعرنة السرد

أفوز بومضة[1]: سيرة ذاتية لومضة معتّقة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

          “أفوز بومضة: سيرة ذاتية لومضة معتقة”، كتاب أول للكاتبة أروى الزهراني، هو مجموعة نصوص لا يمكن حبسها في إطار نوع ما، إذ هي نصوص سرديةوفقا لتصنيف الكاتبة- فهي “سيرة ذاتية لومضة”، وهي “معتّقة”، تقع في الزمن الماضي، ما يعني أنها تتطلب وعيا ليسترجع تفاصيلها، ويجد فيها المعنى، ويلمس النقاط الساخنة، ليتخذها مواقع للسرد. ويمكن تعريف السرد بإيجاز بوصفه مقاربة حدث ما، من وعي ما، وعي يستكتشف ذاته والآخرين، في العالم، متخذا مواقع للرؤية -في الزمان والمكان- نقاطا ساخنة للانطلاق منها: استرجاعا واستباقا ومحاذاة!

       والسرد هو الشكل اللغوي القادر على تمثيل الصراع، الذي هو محرك الذات للوجود/الحركة في العالم، ومن هذا المنظور ينهض النص الذي نقاربه بواسطة بنية صراع سردية بامتياز، بحيث تغدو المحاولة الدائبة لحل صراعات الذات المسرودة، واقتراح وسائل لحل ذلك الصراع، في الذوات التي يتوجه لها بالحديث، هما الحافزان الرئيسان لفواعله، تلك الذوات التي تحقق حضورا مكثفا للمروي عليه، وتلك سمة سردية أخرى، يفصح عنها النص بقصدية واضحة للمؤلف/كاتبة النص.

          وهو (أفوز بومضة) من وجه آخر نص شعري، حين نقاربه بأدوات الشعر، فالحبكة القصصية فيه تتحرك بأدوات بلاغية، حيث يتوسل المحكي بكثافة المجاز، طريقةً لتكثيف الحدث، في محاولة لاحتواء تفاصيله الكثيرة، وفي دأب على اختراق غموضه. وتلك مفارقة، حيث المجاز هنا وسيلة للكشف وليس للتعمية، وسيلة أشار إليها الرماني مبكرا حين قال: “إن دلالة الأسماء والصفات -يعني الألفاظ المجردة- محدودة، أما دلالة التأليف فلا حدود لها”، وحين يتوسط التأليف بالمجاز يفتح حدود اللفظ، بل يهدمها، ليمنح اللغة المساحة والمرونة لاستيعاب خصوصيّة منظور الأديب، وبذلك يمكن وصف هذا النص بأنه نوع من الخطاب السردي المجازي، من حيث هو تصنيف مشروع للسرد حين يتوسل باللغة الشعرية، وهذا النص هو تمثيل قوي لهذا الخطاب.

وجد اللفظ[2] -الذي يتسم بالضيق أمام اتساع الدلالة- وسيلة ليفلت من حدوده في المجاز[3]، وهي علاقة يستثمرها النص المدروس بمرونة بنيته اللغوية، التي استطاعت الكاتبة أن تصنع -بواسطتها- بصمة، ما يرفع من القيمة الإبداعية لتجربة مبدع في عمله الأول. وينبغي -بالحديث عن المجاز- تخصيص الاستعارة بالتفوق في تحقيق هذه الحرية على صور المجاز الأخرى، إذ أن التشبيه قاصر عن التحرر من سلطة المرجعي، الذي يحصره بشروط الواقع المشاهد، في حين أن الاستعارة متحررة بالكامل ذلك القيد، قادرة على بناء المتخيل بلا حدود، لكن الاستعارة وحدها لا يمكن أن تؤدي دورا في نص سردي من دون التضافر مع الصور الأخرى للمجاز، ومنها المقابلة، والجناس، فالخطاب السردي ذو بنية أكثر تعقيدا من الخطاب الشعري، فهو خطاب يتكئ في وجوده على الفعل في الزمن وبالزمن، وفي المكان وبالمكان، بما يعنيانه من التحديد، وذلك يحمّل السارد عبء التصرف مع تلك الحدود.

 وحين الولوج في النص لاستكشاف مظاهر شعرنة السرد وسردنة الشعر، يبدو جليا كيف يتبادل الشعري والسردي الأدوار، إذ تنهض المقابلة بين ثنائيات متضادة -كالغربة والألفة، والنور والعتمة، والتقنع والظهور- ببنية الصراع[4]، فتأتي الحلول التي يقترحها الخطاب بحثاً دائباً عن الألفة/التناسخ[5]، وهي -بطريقة وأخرى- تنويعات على جناس معنوي، تمثله مترادفات الصمت/الغياب، والكلام/الحضور، والقناع/الاستعارة، والحقيقة/إزالة الأقنعة …إلخ. والنص بعد ذلك كله مقابلة كبرى بين الحياة والموت، تحملها صفوف من المجازات، تقع على خطين متوازيين يتقاطعان في نقاط التضاد، غير أن ذلك لا يمنعهما من إيقاع القارئ في فخ المفارقة! وهو في مجمله مجاز عن الرغبة في الوجود/الحضور إلى العالم، بكتابة صراع الذات بين الحياة والموت.

ويمكن لمس تقاطع السردي مع الشعري من عنوان الكتاب/عتبته الأولى، إذ يختصر بعنوانه كل ما سلف من الحديث عن مجاز خطابه السردي في مجمله. وهو يتكون من جزأين، “أفوز بومضة”، و”سيرة ذاتية معتّقة”، يتطلبان لفهم اشتغالهما في الخطاب العمل على طرفي العلاقة المشار إليها. ويمكن مقاربتها في المستوى المعجمي، بتحليل معجمي بسيط كالتالي:

  • فَوَّز، يفَوِّزُ، تفْوِيزا: فَوَّزَ الصَّيَّادُ/ دَخَلَ الْمَفَازَةَ. وفَوَّزَ الرَّحَّالَةُ/خَرَجَ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، ورَحَلَ، ومَضَى. وفَوَّزَ الطَّرِيقُ/ بَدَا، ظَهَرَ. وفَوَّزَ الرَّجُلُ/ هَلَكَ[6].
  • وَمَضَ، يمض، ومْضا، ووميضا، وومضانا: ومض البرق لمع لمعانا خفيفا[7]. ومض البرق: لمع لمعانا خفيفا وظهر وأنار، وومض البرق ثم هطل المطر، تتابع الوميض وقصف الرعد. أومض الشَّخصُ: أشار إشارة خفيَّة رمزًا أو غمزًا[8] .

وتفجّر الجملة الفعلية “أفوز بومضة” بغنى محتواها المعجمي تيارا من الدلالات التي يجدها القارئ في نصوص الكتاب، الذي تدعوه الكاتبة ليشاركها رحلتها في مجاهل مفازة وجودية كبرى، من معركة لمعركة مع الهلاك. وهي بعد هذه الرحلة المضنية تحظى -بالكاد- بومضة نور في نهاية النفق، يليها تتابع قصف الحقائق الوجودية، تلهب الروح التائهة في رحلة البحث عن الحضور. والجملة بصيغتها الفعلية المضارعة، تعكس انفتاح الفعل على الزمن الحاضر والمستقبل، وهي تصارح القارئ بفداحة الحقيقة الوجودية، فهي توهان /فوز يحدث وسيحدث، وعدا ووعيدا يشعل حماس القارئ لاكتشاف ما وراءه، حين يقرر مشاركة الكاتبة معركتها الوجودية!

أما الجزء الثاني من العنوان فيأتي بعد نقطتي تفسير لما قبله، في جملة خبرية تفسر محتوى الرحلة في مفازة الوجود، إذ هي “سيرة ذاتية معتّقة”، وسأقفز لمركزها، الخبر الذي يصف تلك السيرة/الرحلة، فهي سيرة “معتّقة”، وجذرها في في بنيته الصرفية فعلا لازما “عتُق، يعتُقُ، عتقاً وعتاقة”، يدور حول معانٍ أهمها القِدَم، ويتضمن العتق في بنيته الصرفية -فعلا متعديا- معاني الحرية والتحرير، أعتق رقبة: حررها[9]. وهي دلالات تشير -تصريحا وإضمارا- للبحث عن التحرر من قيود لا يصرح بها، ما يدفع القارئ لتجاوز العنوان لما وراءه، كما تشير للقدم الذي يرتبط بالتكثيف، إذ يقال “طيب معتّق، وخمر معتّقة”، والكاتبة بذلك تصف التجربة الوجودية التي تسردها بالكثافة والعمق. والبنية الخبرية للجملة تفيد المطابقة الكاملة، فهذه التجربة بكاملها وبكل تفاصيلها لا يسلم أي جزء منها من عمق المعاناة، والرغبة في التحرر من آثارها. وبالنظر لمجمل العنوان يستنتج القارئ المتذوق هذا المعنى الدقيق لعمق المعاناة الوجودية، المثقلة بالقيود، وإذ يفصح العنوان عن الرغبة في التحرر من ذلك الثقل هو يضمر أن ذلك الرحيل -بحثا عن الحرية- يورّط الكاتبة في الوقوع في متاهة مهلكة، لا سبيل للخروج منها سوى بالتشبث بالخيال، وهنا تطرح الكتابة نفسها حبلا للنجاة، ويظهر ذلك في تشبُّث الساردة/الأنثى بالكتابة فعلا وفلسفة للوجود.

يتبع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] أروى الزهراني: أفوز بومضة، سيرة ذاتية لومضة معتقة، دار تكوين، الرياض، 1440هـ/2019م.

[2] قام الموروث البلاغي على هذه العلاقة، التي أطلقها الجاحظ في ذهابه إلى أن المعاني ملقاة في الطريق، يعرفها العربى والعجمى والحضرى والبدوى، إنما الشأن في اللفظ. .. إلى آخر ما قال في البيان والتبيين، ما مفاده أن الألفاظ محدودة محصورة، والشأن حينها في القدرة على هزيمة ذلك القصور، بالتصرف في المعاني غير المحدودة. وقد وعى القدماء مقصوده، فاشتغلوا بدرس هذه العلاقة، التي نضجت في نظم عبد القاهر الجرجاني.

[3] وقف البلاغيون في ممارساتهم النقدية عند هذا المفهوم، وقدم عبد القاهر الجرجاني نظريته الدلالية التي كانت ولا تزال محل عناية الدرس النقدي الحديث، ويمكن الاطلاع بهذا الشأن على مؤلفات مصطفى ناصف، وأمين الخولي، وغيرهما.

[4] سيأتي تفصيلها.

[5] تتكرر هذه اللفظة في أكثر من بؤرة صراعية، وتطرح بوصفها حلا للصراع.

[6] الغني

[7] الغني:

[8][8] معجم اللغة العربية المعاصر

[9] الغني

ربما يعجبك أيضا