امتلاك الحقيقة (1)

عكاظ 2007
في شهر القرآن، يحدث أن نجدد تأملنا لذواتنا ووعينا، وفق المنهج القرآني القائم على التدبر والتحليل المنطقي لكثير من حقائق الحياة، ودائما ما نكتشف الجديد في رحلتنا السنوية مع القرآن الكريم، ففي كل قراءة يمنح هذا الكتاب المعجز وجها جديدا مختلفا للحقيقة . وسأسعد بمشاركتكم هذه الوقفة مع قصة من قصص القرآن الكريم، طرحت أمامي العديد من الأسئلة، وعلامات الاستفهام، حين قرأت في ضوئها شيئا من واقعنا وأزمات هذا الواقع، تلك هي قصة نوح عليه السلام، في ملحمته الطويلة في الدعوة لتوحيد الله عز وجل .
حين جمع نوح عليه السلام أهله في السفينة، مع عامة من آمن معه من قومه، لينجو بهم من وعيد الله المتحقق بالطوفان، عقوبة للقوم الجاحدين المعاندين للحق، تفقد أهله ولم يجد ابنه معهم، وكان هذا الابن قد قرر أن يعتصم بجبل شامخ من الجبال، ظنا منه أنه سينجيه من الطوفان، وقلة ثقة بأن أي سفينة قادرة على الصمود في وجه ذلك الطوفان الثائر. حاول نوح أن يقنع ابنه بأن الجبل لن يعصمه من عذاب الله، لكن الابن عاند وتمسك برأيه. احتكم الابن إلى مألوفه ومخزونات خبرته، التي تعتمد على المعاينة والممارسة المباشرة، ووضعها في مواجهة مع الوحي الذي هو وعي يقوم على مشاهدة القلب، بناء على الاستدلال والتفكر والتدبر المرحلي الطويل، الذي يقود إلى الإيمان المطلق، والتسليم بالغيب لمصدر القدرة المطلقة غير المحدودة بالحس المباشر السطحي، أصاب الغم قلب الأب، وتوجه إلى خالقه بالسؤال، فجاءه الأمر الإلهي القاطع، إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح. وهكذا دار الحوار سجالا في ذرية آدم، بين الوحي والعقل.
وفي قصة ابن نوح جاء العقل ممثلا لمألوف الإنسان في الطبيعة، لكن العقل يتخذ أحيانا صورا أخرى من مألوفات الإنسان في مجالات أخرى، فمعقولات الإنسان هي مجموع خبراته وممارساته، وهكذا تمثل العادات والتقاليد والإرث الاجتماعي الثقافي صورة العقل، من حيث هي معقول المجتمع في مواجهة ما لم يألفه ويختبره في تاريخه القائم على التراكمية والإلف، ولطالما مثل الوحي صورة هذا الجديد غير المألوف، والقصص القرآني مليء بالشواهد على ذلك. وإذا كان موقف العقل الفردي كما لدى ابن نوح، والجمعي كما في تاريخ أمم كثيرة ، الرفض للوحي الذي يتعارض معه، فما موقف الوحي في هذا الصراع السجالي ؟ في قصة ابن نوح عليه السلام جاء الوحي بالحقيقة القاطعة، إنه ليس من أهلك، أي أن الرابط الديني يلغي رابطة الدم والنسب، وبالتالي جاء موقف الدين هنا من الإرث الاجتماعي ممثلا في موقف ابن نوح وفي موقعه معا، جاء بعزل ما يتعارض مع الوحي وتحييده، فموقف الابن من الوحي في معارضته بمعقوله مرفوض، وموقعه من والده ملغى بناء على هذا الموقف.
هذه القصة ومثيلاتها من القصص القرآني، تطرح العديد من التساؤلات، لعل أولها ما يتعلق بالحقيقة، أين تكمن الحقيقة وكيف يمكن إدراكها؟ ما موقع العقل في هذا الإدراك؟ وكيف يمارس وظيفته؟ وهو سؤال فلسفي انشغل به كثير من الفلاسفة، ولم يصلوا لإجابات مقنعة، لكن الحقيقة التي اتفق عليها الجميع هي أن العقول تتفاوت في إدراك الحقائق، تبعا لاختلافها في وسائل الوصول إليها، ولهذا فالسؤال الآخر المطروح هنا، من يمكنه أن يزعم امتلاك الحقيقة؟
لم يكن ابن نوح سوى صورة لوهم امتلاك الحقيقة، الذي تمثل في صراع بين العقل والوحي، والذي قد يتمثل في صور أخرى منها النزاع الذي دار مطولا بين الإرث الثقافي للمجتمع وبين الدين، فهل يمكن أن ينفصل الوعي الديني عن الإرث الثقافي للمجتمع ، هذا هو السؤال الذي تطرحه القصة أخيرا، والذي نأمل أن نلتقي حوله في كتابة أخرى إن شاء الله .

ربما يعجبك أيضا