بطولة الزمن السردي وأزمة الذات الأنثوية في القصة: القاصتان هدى المعجل وخديجة الصاعدي نموذجاً

مجلة الجوبة عدد 51

ينشد القارئ في النصوص السردية البحث عن صياغة جديدة لواقعه المعاش من وجهات نظر مغايرة، ويتحدى السرد قدراته على التفكير بواسطة شبكة من التقنيات السردية. إن السرد بالنسبة للقارئ نوع من التجول داخل الذات وفي مواجهتها، نوع من إعادة صياغة الذات بواسطة سردها من منظورات مختلفة. وفيما يلي قراءة هذه العلاقة بين القارئ والنص السردي عبر نصوص للقاصتين هدى المعجل[1]، وخديجة الصاعدي[2].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تقدم القاصتان زاويتين متكاملتين لرؤية علاقة الذات الأنثوية بالمجتمع: زاوية ترتفع فوق الواقع الاجتماعي، وتعرض رؤية واسعة، شمولية، تنطلق من المجتمع للذات، كما في أثر العلاقات الأسرية، والزوجية، وهذا ما تكفلت به نصوص الكاتبة هدى المعجل. وزاوية تنزل إلى أعماق الذات، حيث تتجول في مناطق تنضغط فيها الذات، وتستنطقها بواسطة اللغة، وتكشف تفاصيلها في تساؤلات تلهث خلف إجابات لم توجد بعد، وهذا ما تمثله نصوص الكاتبة خديجة الصاعدي.

 وتميل نصوص الكاتبة هدى المعجل للاختزال اللغوي واعتماد اللقطة الخاطفة، وهو تكنيك يبرره معالجتها مساحات معقدة مترامية الأبعاد من العلاقات الاجتماعية، تخشى أن ينفلت منها أطراف خيوط سردها فتلجأ لمحاصرتها بلغة تعتمد اللمحة والإشارة، بينما تقف القاصة خديجة الصاعدي داخل حدود ذات مهمومة بالحرية، تحاول تفجيرها، وتنبش داخلها لتفكك مبهماتها، وهي تتوسل في سبيل ذلك بتركيز عالي على اللغة السردية، تساعدها على استبطان شخصياتها المأزومة نفسيا غالبا، أو التي اختارتها لتمثل جوانب من النفس الانسانية، وقيمها الوجودية.

وكلا الموقعين الرؤيويين يبرزان فيما يسمى زمن السرد، وهو مستوى ثالث من الزمن في القصة، إلى جنب زمن القصة الأصلي، وزمن القصة بعد صياغتها فنيا، ومونتاج زمنها ترتيبا وسرعة. ويتمثل زمن السرد في الموقع الزمني الذي يختاره السارد للنطق بأحداث القصة، فقد يحكي الحدث بعد وقوعه، وقد يتوقعه قبل وقوعه، وقد يحكيه من موقع متزامن ويلاحقه في الحاضر لحظة بلحظة. ولا يمكن الحديث عن زمن السرد خارج بنية اللغة السردية، فلغة السارد هي ما يجسد بنية الزمن بكل مستوياته، لا سيما زمن السرد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 في نص”أروى”[3] للقاصة هدى المعجل معالجة لعلاقة الأنثى بالمجتمع، في صورة الأسرة، عبر توظيف للحلم، بوصفه نصا سرديا من مستوى تخييلي مضاعف. تجترّ الساردة من خلال الحلم/ الكابوس، طفولة هاربة مفقودة خلف جبل الحاضر الثقيل، ضغوطات الوالد وزوجته من أجل قتل آخر أمل في الأمان، الأمان الذي تم إعدامه من قبل الوالد الذي بادر مسرعا بعد وفاة زوجته للزواج من صديقتها التي فرق بينهما بنفسه، الأمان الذي فقدته مع طفولة دفنتها مع والدتها في قبر الغدر والخيانة اللذين تمثلتهما في قبح وجه زوجة والدها وأخيها.

ويضيف الحلم بعدا تخييليا آخر للنص السردي، من حيث أنه غير محكوم بالمنطق الواقعي، لا من حيث بناء عناصره من شخصيات وزمن ومكان، ولا من حيث العلاقات بينها. إنه نوع من الهروب من زمن الواقع لزمن الحلم، وتشتيت لواقع كابوسي في زمن الكوابيس الضبابي. يرتكز السرد على المونتاج الزمني، إذ يستعيد السرد عبر الحلم طفولة البطلة فيسقطها على واقعها الحاضر في السرد، كما يسقطه على ماضيها باستعادة ذكرى والدتها المتوفاة، وهو بذلك ينفّس عن مخاوفها التي تلازمها في الصحو والمنام، مخاوف تتعلق بالأمان والثقة والمستقبل.

على مستوى القراءة يضفي الحلم على النص نوعا من الغنى التأويلي، من خلال الانتقال بين مستويين سرديين، بخصائصهما الزمنية، مستوى الحلم ومستوى الواقع القصصي، إذ تبهت الحدود بين القصة في الحلم، والقصة في الواقع السردي، ما يمنح القارئ صيغة مختلفة لتأويل وقائع الحياة، “اعترض دربي.. فسلكت دربا شائكا.. متعرجا لأصبح بمنأى عن تلصّص عينيه الجاحظتين.. وبطش يديه المرتجفتين.. العاريتين إلا من قفازين تمزّقا عن مخالب معقوفة إلى الأسفل.. تكسر بعضها وتشبث بالحياة بعضها الآخر… وقدماي تواصلان الركض فرارا منه. أحسست بإجهاد فلجأت إلى شجرة وارفة الظلال قريبة مني.. خلعت معطفي وفرشته.. ثم اضطجعت عليه متخذة من ذراعي اليمنى مخدة تقي وجنتي خشونة الأرض.. ورحت في نوم عميق.. ليجدها فرصة ذلك الذي اعترض دربي ويهوي بفأسه على جمجمتي فتنكسر الفأس قبل أن تلامس جمجمتي… فأفر هاربة منه من جديد.. لأصطدم بطفلة تشبهني ممتلئة البنية بضفيرة طويلة انسدلت خلفها تطارد دجاجة ينز الدم من مؤخرتها فوقفت أتأمل الطفلة والدجاجة ونسيت الرجل”[4].

وفي نصها “كهل متصاب” تعالج حالة من حالات العلاقة الزوجية، وتقدم تصويرا دقيقا لتفاصيل العلاقة بين المرأة والرجل/الزوج، في درجات مختلفة بين الفتور والتوهج بصوت ساردة أنثى. وتنتقل الساردة بين مشاهد من الماضي، من تاريخ علاقتها بزوجها وخطيبها سابقا، وتقاطعها بمواجهات للحاضر في محاولة لفهم غموض هذا الرجل، الذي تحول من فورة الشباب إلى فتور الشيخوخة في وقت قصير بين فترة الخطبة وفترة الزواج. تعاود الغوص في تفاصيل حميمية حسية وتستغرق فيها لتصحو على مفاجأة تفسر موقفه منها. ولعل جمال هذا النص يتمثل في خاتمته التي جسدت حل عقدة النص، بطريقة مفاجئة وصادمة، بعد تأملات طويلة –عبر تنقلات في الزمن- في تفاصيل علاقتها الحميمة بزوجها.

 “مضت عشر سنوات، وأعين أخوته تتلصص مترقبة تكور بطني، والأنثى بداخلي يمارس السجان في حقها الموت البطيء… كلما غفوت على وجعٍ، أيقظتني يدٌ مرتجفةٌ تغمس أناملها برفق بين عنقي، وخصلات شعري المسترسل، فتنتفض الأنثى في جوفي، وأسكتها، لتتوسد الوجع من جديد… … ما أن يضيق بإخوته ذرعاً، حتى يجيء بي إلى هنا، فراراً منهم!! عدا تلك الليلة حينما ضاق بهم، احتد في النقاش معهم.. سبهم.. شتموه… تفوه بكلمات نابية.. أهانوه.. تطاول عليهم… فعيروه بشيء ما…عرفت فيما بعد أن نساءه الخمس فارقهن وهن مازلن أبكاراً!”.

وفي نصوص القاصة خديجة الصاعدي  في مجموعتها -رائحة الحنين- تبرز أشكال أخرى من استدعاء أجواء الطفولة، وقيم الماضي المفقودة. ويتوسل نص “سطح الجيران” للقاصة خديجة الصاعدي باللعب على محور الزمن، متلبسا باللغة. وفي هذا النص تعلو نبرة زمن السرد، لتتحكم ببقية أزمنة النص، وبنيته، حيث ينطلق صوت الساردة/ البطلة، موجهة الخطاب لمخاطب مجهول الصفة وإن كان محدد الاسم، فتحكي الماضي معلَّقا بين قوسي الحاضر، بواسطة تعليقاتها الموجهة للمخاطب، كما في المقطع: “وسط ضحكات الصبية وابتسامتي.. -لاحِظ أنني قلت ابتسامتي- لأنني لستُ ممن يجاهرون بسخريتهم من أحد يا صديقي”، ثم تعود لزمن القصة الأصلي: “في غمرة ضحكهم وابتسامتي، جاءني ما لم أتوقعه أبداً يا ميمون.. اقترب مني (التنين) وصفعني بأقصى ما لديه من قوة”.

وبهذا الاختيار لزمن السرد -الذي يجسد استمرار الماضي في الحاضر- تبني البطلة عقدة قصتها، كما تتلخص في أزمة الذات الأنثوية في مجتمع ذكوري، فبواسطة زمن السرد تختار نوافذ لرؤية هذه الأزمة، ومظاهرها عبر الزمن. وهي تستعيد حكايتها مع (التنين)، الولد الذي استطاعت هزيمته وهي طفلة، من موقعها وهي محبوسة خلف نافذة شباك، تنظر للتنين وقد أصبح رجلا، ورمزا لكل رجل في علاقته الفوقية بالأنثى. تتحول صورة (التنين) زمنيا ليرمز لكل ما يمثله المجتمع الذكوري وكثير من أحكامه التي لا يسندها شرع ولا عقل، أمام البنت المقيدة بشباك نافذة المنزل، التي لا تملك إلا أن تنفّس عن نفسها، بالحوار مع (ميمون) الذي هو على أغلب الظن طائرها الذي ترى فيه رمزا للحرية الحبيسة.. وشريكها في قفصها الكبير.

وتتكرر المراوحة بين مواقع الرؤية من مواقع مختلفة من الزمن، بواسطة نوع من الحوار الضمني بين منظور الطفلة التي يطاردها (التنين) -الذي مثّل في صغرها القوة التي لا يحكمها العقل، والتي استطاعت بلحظة شجاعة أن تنتصر عليه- ومنظور الفتاة التي تتوق للحظة الانتصار المسروقة من الزمن، والتي غاية ما تملكه أمام (التنين) في الزمن الحاضر هو استراق النظر من خلف شباك، والتماس الذاكرة بعض صور الحلم المسروق/حلم الحرية، وتمارس التنفيس عن الذات المكبوتة بتخيل التنين بدون شماغ ولا عقال.

وتحدد الساردة موقع القارئ، لينظر معها إلى زمن ماضٍ مستمر: “كنتُ – ولا أزال- مسالمة حد الضعف.. هادئة كالصنم، أينما توجهه لا يأتي بخير.. لا أتحدث إلا عندما أعجز عن الصمت، وهذا ما جعل جدتي تعلق في كل مرة أتحدث فيها:  بيموت كافر!”. هذه العلاقة بين الماضي الذي ينعكس في الحاضر، ويتجدّد فيه، بما يمثله من موقع الأنثى في المجتمع، هي عقدة النص. ذلك الموقع الذي يجعل الساردة البطلة تهرب من الخارج للداخل، مخاطبة ذاتها، في حوارها مع ذات أخرى ليست إلا معادلا لذات البطلة، ومعبرا لظهور صوتها.

  ويتحكم زمن السرد ببنية القصة الزمنية والرؤيوية بواسطة اللغة، فيجري اختزال الزمن وتهدئته بواسطة بنية الجملة اللغوية، وعلى سبيل المثال تقول البطلة: “الحجر الذي غير فيما بعد مجرى حياتي”، فتختصر القصة كاملة بجملة واحدة، بينما تقف في مقطع آخر على وصف إيقاف الزمن بوصف لغوي دقيق لتفاصيل رمي الحجر، وشعورها بالانتصار، الذ ستفقده في الزمن المقابل. وهذا التنويع على وتر السرعة في زمن الخطاب يدعم النص بنوع من التشويق، ويبعد عن القارئ التفاصيل المملة، كما ينتقل به أحيانا لتخيل وقائع لم تسرد، والتلميح إليها مما يشوقه إلى متابعة القراءة للتعرف عليها.

ويوازي نص”سطح الجيران”، نصان آخران أحدهما بعنوان “كتلة زائدة”، والآخر بعنوان “رائحة الحنين”، فنص رائحة الحنين على وجه الخصوص يرتكز على الحوار الضمني بين رؤية الطفلة ورؤية المرأة الناضجة اللتين تمثلهما الساردة البطلة، عبر الانتقال خلال نقاط مختلفة على خط الزمن، لكن حول موضوع جديد، ورؤية جديدة للمرأة ونظرتها لذاتها الأنثوية من خلال رمز الجدّة.

 ويتوسل نص “أرق” للقاصة خديجة الصاعدي باللغة ليجعلها معادلا موضوعيا لشخصية البطلة الوسواسية، لغة تتسم بالتكرار والتناسل والاستدارة، فالجمل تتناسل لتتنتج خواتيمها رؤوسها من جديد، وهذا النوع من الاستدارة يمثل بنية التفكير لدى الشخصية الوسواسية، التي لا تقبل التشكيك في اعتقاداتها، والتي لا تملك الانفلات من أفكارها، فنحن نجد المريضة محبوسة في لغتها، لا تستطيع الفكاك حتى من كلماتها، التي تفرض نفسها بالرتم نفسه.

“دخلتُ غرفتي وقلبي يخفق بأمانة.. وقررتُ يومها أن تكون تلك آخرَ صحيفةٍ تمسُّها يدي، وقد كان.. لم أطالع صحيفة منذُ ذلك الحين، ولستُ نادمة.. أحاولُ ألا أندم كثيراً يا دكتور، لأن الندم حماقة كحماقة عض الكلب للعظمة، كما يقول نيتشة.. ولأنه لا يُفيد كما تقول أم كلثوم.. هل سمعتها؟

– لا!

– لابأس سأغنّيها لك..

– لا داعي.. فقط تابعي

– تفيد باييييييه يا ندم يا ندم يا ندم؟.. وتعمل أيه يا عتاااب؟..

– صوتكِ جميل!

– لا ليس جميلاً! لا تخدعني أرجوك.. كلانا يعرف بأن صوتي أجش ولايناسب فتاة في مثل عمري.. كل من سمِعوه أخبروني عن بحته، وهذا أدنى ما تقتضيه اللياقة ويمليه الذوق.. وتوقّع من لم يرني منهم أنني في الأربعين من عمري على أقل تقدير، فلا تجاملني!

– أنا لا أجامل يا دكتور.. وهذا الشيء يسبب لي العديد من المشاكل،… …”.

تستأثر المريضة بجو الحوار لتعرض علاقتها المرتبكة مع والدها ووالدتها، في مشاهد متسارعة من التاريخ ومن مجتمعها ومن طفولتها تسرد عبرها حرمانها من والدتها، وتشخص رجوع كثير من الاضطرابات النفسية لعلاقة الطفل بوالديه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] قاصة سعودية، لها مجموعتان قصصيتان، “بقعة حمراء”، 2005م، و”التابو”، 2007م.

[2] قاصة سعودية، لها مجموعة قصصية بعنوان “رائحة الحنين”، صادرة عن نادي القصيم الأدبي، 1431هـ

[3] هدى المعجل: التابو.

[4] هدى المعجل: التابو.

ربما يعجبك أيضا