عزلة المثقف


ولا يزال للحلم بقية!!

عكاظ 2008
من هو المثقف ؟ لا أريد هنا أن أخوض في تعريفات الأبستمولوجيا والتواءاتها ، بل أريد أن أطرق باب الرجل والمرأة البسيطين العاميين ، أنا وأنت وهو وهي ، أي نحن وهم ، أي المجتمع ، الذي يعيش المثقف في وسطه ، أو من المفترض أنه يعيش في وسطه ، فعلى من يطلق لقب المثقف في الأوساط العامية ؟ على الملتحي ؟ قصيرالثوب ؟ أجزم أن هذا يتعارض في وجهة نظر العوام مع أي مفهوم للثقافة ، أو أن الثقافة تتعارض مع أي مفهوم للتدين ، فإذن هل هو العلماني المتحدث ضد أمور الدين والمتمرد عليها ؟ إذا لم يكن لا هذا ولا ذاك فلنقل إن الثقافة أمر لا علاقة له بالدين لا سلبا ولا إيجابا ، ولهذا فالمثقف رجل وامرأة معزول قبل أن ينعزل ، لأن كل شيء ينفصل عن الدين في بلادنا يتم إقصاؤه ، بمفهوم عكسي يتم وفقه إقصاء الدين عن الحياة ، بينما الواقع الديني في الإسلام أن الدين يشمل الحياة وليس العكس ، ” قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ….. الآية ” ، وهذا يعني أن الثقافة هي فعل ديني لا يمكن عزلها عنه ، وأن المثقف هو رجل دين بمعنى من المعاني ، مثلما كل مسلم هو رجل دين فليس في الإسلام طبقية في الدين .
إن جزءا من عزلة المثقف هو ذلك المفهوم عن التدين ، وعلاقة الدين بالحياة ، فالحياة فعل دين بقدر ما هو الدين فعل حياة ، وهذا هو الخط الفاصل الدقيق بين مفهومين كبيرين يحكمان تركيبة الحياة الاجتماعية والدينية والثقافية في بلادنا . مفهوم يعزل الدين عن الحياة وهو يظن أنه يحكمه فيها ، يتهم الثقافة بالعلمنة والاستغراب ، ومن وجهة نظره فإن كل علم لا يتصل بالقرآن اتصالا مباشرا فهو علم دنيوي ،غير نافع وعلماني وتافه ومضيعة للوقت ، ولم يكن هكذا مفهوم الصحابة والتابعين والسلف الصالح للعلم ، فكانوا يطلبون علوم الدنيا بقدرعلوم الدين ، ويبرعون فيها ، ومنهم علماء ومخترعون بارزون في علوم الرياضيات والكيمياء والفلك والفيزياء . وأما المفهوم الآخر فعلى النقيض من ذلك ، يرى في علوم الدين تخلفا ورجعية .
وكلا المفهومين المتنازعين غير واقعيين في نظرتهما لواقع الفكر ، فالواقع ليس بهذا التطرف بين الاتجاهين ، بل الفكر توسط بين الاتجاهين ، ومزيج منهما ، من أمور الدين والدنيا ، الأولى والآخرة . وهكذا الثقافة ، فهي ليست نشاطا دينيا خالصا ، كما هي ليست نشاطا لادينيا ، بل هي فعل إنساني حر وحي ومحايد ، وغير قابل للتصنيف والتحيز ، وهذا ما يجعلها مرنة ، راقية ، ومسؤولة عن تقدم المجتمعات ، وتطورها السريع ، والمرن والفعال . وهو ذاته المسؤول نقصه عن تعطل تقدم مجتمعاتنا وعدم مبارحتها مواقعها أزمانا طويلة متطاولة ، إلا في الجوانب الشكلية الفارغة ، والاستهلاكية التي لاتسمن ولا تغني في جوانب الحضارة من جوع . هذه الشكلية وهذا الفراغ من الامتلاء والفعل ، من أهم أمراض الثقافة في بلادنا ، وهما مع عزلة المثقف آفة يجب ابن نتخلص منها سريعا فالثقافة ليست اكسسوارا نتقلده ونتزين به ، بل آن الأوان لأن تتغلغل في صميم عروق المجتمع وشرايينه ، وأن تكون فعلا حقيقيا يمارس دورا حقيقيا وقويا ، لا شكليا ، فعلا حضاريا يترك بصمته على مر الزمن كل جيل للأجيال التي تخلفه ، هو حلم … ولا زال للحلم بقية .

ربما يعجبك أيضا