اعدلوا هو أقرب للتقوى


أصابتني موجة من الضحك – الذي لا أخجل من إعلان نبرة الشماتة فيه – وأنا أقرأ عن الموقف المخجل الذي تعرض له بابا الفاتيكان، بيندكت السادس، حين رفضت استقباله كبرى جامعات إيطاليا. كان موقف الجامعة التي خرج طلابها وأساتذتها في مظاهرات ترفض الزيارة، التي رافقها زخم اعلامي يظهر فيه البابا في صورة متعالية تعيد للذاكرة صورة أباطرة الكنيسة في القرون الوسطى، كان قد فضح تاريخ البابا الرجعي الخالص، في موقفه من العلم التطبيقي، الذي تمثل الجامعة أرقى صروحه في ايطاليا، وشكل صفعة قوية للفكر الذي يمثله البابا ويريد أن يبعثه من مرقده. ولم يكن موقف البابا من العلم سوى صورة من الصور الكثيرة التي ظهر فيها حنين البابا للعصور المظلمة، تلك العصور التي مارست فيها الكنيسة أبشع صور التعصب الفكري والعقائدي، العصور التي تحفل بتاريخ من الجرائم التي لا تعد تجاه العلم والعلماء، تجاه الفكر، تجاه الآخر، العصور التي احتضنت الحروب الصليبية بكل شعاراتها العنصرية ، وبصماتها الدموية.
وإذا كان البابا بيندكت قد قدم المثال الأنصع للتمركز حول الذات وقمع الآخر المختلف، والتعصب الأعمى ضد الاسلام خاصة، في موقفه الشهير يوم اعتلائه قمة الفاتيكان، التراث الذي خلفته النصرانية المحرفة، التي مثلتها الكنيسة في الفاتيكان على مدى قرون- فإن القس الانجليزي رئيس الكنيسة الأنغليكانية روان ويليامز ، الذي لا يقل مكانة عن البابا قد قدم المثال الأنصع للفهم الصافي للحوار مع الآخر وتقبله، فقد دعا هذا القس إلى أخذ التشريع الإسلامي في الاعتبار في تطوير القانون الانجليزي، وتلك دعوة منصفة ومتعقلة، لكنها كلفت القس الانجليزي الكثير من العداء من بني جنسه، وتكاد تكلفه حياته ومنصبه الديني الكبير. وترسم حكايته مع مخالفيه دراما الفكر الغربي الديني واللاديني تجاه الإسلام، أو تجاه الموقف من الآخر المختلف. ذلك الفكر الذي لم يتقبل الآخر في نطاقه إلا عبدا، أو تابعا، أوعدواً يستبيح دمه وماله.
وليست دعوة القس للاستفادة من التشريع الإسلامي نشازا، لكن النشاز أن يعترف الغرب بالحقوق الفكرية للحضارات الأخرى التي نهل منها إبان التماس معها. مغالطات كبرى لا يفسرها غير العنصرية والتطرف تجاه الآخر، فالواقع يثبت التأثير القوي للتشريع الإسلامي في القانون الغربي، وقد كتب الدكتور حافظ يوسف في الأهرام، في عدد الخميس 19 ربيع الأول، عن بعض صور استفادة القانون الغربي من التشريعات الاسلامية، ولعل أبعدها أثراً تعديل نظام الطلاق والنفقة وأحكام الوراثة*.
كان موقف القس الانجليزي مقابل موقف البابا بيندكت صورتين من صور العلاقة الملتهبة بين الأديان، التي هي الأساس الفكري لكل صور العنف والصراع الدموي بين البشر عبر التاريخ وحتى عصرنا الحاضر. ولهذا يتحدث الجميع اليوم عن ضرورة الحوار بين الأديان، كوسيلة وحيدة لوقف هذا الصراع الدامي في مختلف أصقاع الأرض. والتعايش بين أتباع الأديان المختلفة هي العلاقة الطبيعية التي صورها الرسول الكريم في مطلع الدعوة، حين بعث المهاجرين الأول للنجاشي، الملك النصراني، وحين استقبل النجاشي المسلمين وحماهم وأنصفهم، من أعدائهم. ولا يزال في النصارى واليهود وفي الملل كافة معتدلون منصفون، فقد وقفت الكنيسة في هولندا مثلا موقفا منصفا من النائب الهولندي المتطرف الذي أنتج فيلما مسيئا للإسلام، فطالبت بمنع بث الفيلم واستجابت الحكومة لمطالبها. وفي أمريكا دافع أحد القساوسة عن موقف المسلمين تجاه أمريكا، وبرر ثورة بعض المتطرفين منهم بأنه ردة فعل على ما أسماه الإرهاب الأمريكي، وأن ذلك لا يرجع لطبيعة الإسلام.
لقد تمسك القس ويليامز بموقفه رغم كل ما تعرض له من المجابهة السافرة الظالمة، وهو يستحق أن نقف معه وندعمه في موقفه المنصف، وأن نعبر عن تضامننا معه في أزمته، من منطلق القضية التي نتشاركها وإياه. جزء من مهمتنا في الدفاع عن ديننا أن نسهم بشكل فعال في قضية الحوار بين الأديان، لأن حصولنا على حقنا في احترام شريعتنا مرتبط باحترامنا لحق الآخرين وشعورنا بأزماتهم في المجال ذاته، وهذا يتطلب أن نتواصل مع أصحاب الفكر المستنير وأنصار هذه القضية في كل مكان، وأن ينطلق العمل في هذه القضية لا من منطلق أناني يهدف لمصلحة ذاتية، بل ينبغي أن ينطلق العمل فيها من منطلق إنساني لا يميز بين الناس في حقهم في احترام عقائدهم وثقافاتهم. وهذا المنطلق يراعي ظروف العصر وموقع المسلمين اقتصاديا وسياسيا، فلا يتخذ العنف وردود الفعل العاطفية الوقتية وغير المدروسة منهجا. النجاشي الحبشي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، والقس الانجليزي، وآخرون على مدى التاريخ هم من أعلام هذا الاتجاه الإنساني المطلق، وهم أمثلة تستحق الاحترام والدفاع والمؤازرة، فلم يكن دافع كل منهم غير الإنصاف المطلق، الذي لا يحقق أي مصلحة شخصية وعنصرية، ونحن أولى بذلك منهم، “ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا”.

  • تفاصيل المقال في موقع الأستاذ عمرو خالد، على الرابط التالي:
    http://forum.amrkhaled.net/showthread.php?t=181866

ربما يعجبك أيضا