مدرسة التاريخ

عكاظ 2008
علاقة الفن بالحياة كهدف ، أمر يختلف عليه المفكرون والنقاد ، لكنهم يتفقون جميعا على علاقتهما الحتمية كنتيجة . فما من عمل فني يخلو من فلسفة ، إن لم ينطلق منها ، فقد انتهى إليها ، وبقدر ما يثير في قارئه من الحياة يبقى حيا وفاعلا . وهذا ما يجعل من بعض الأعمال الفنية موضوعات حية ، محرضة للنقاش والمداولة . هكذا تناولت سابقا جانبا من المحمول الاجتماعي للرواية السعودية ، يتعلق بالحوار كفعل اجتماعي تتلبسه الرواية وتحرض عليه ، ويشكل هاجسها الأكبر . وبالمثل كانت رواية أبو شلاخ البرمائي تمثيلا حيا لامتزاج الذاكرة بالمتخيل ، في ديالوج غني يحلل الواقع ويضع علامات في طريق المستقبل . وهكذا سأستعرض اليوم أعمال الروائي والكاتب المبدع ، سيف الإسلام بن سعود ، وهي أعمال سدت مسدا متميزا في بناء الإنتاج الفكري المحلي ، فنا وفكرا ، من خلال مزج جميل بين معطيات التاريخ وجماليات السرد الفني .
قرأت للأمير سيف الإسلام بن سعود روايتين ، هما “قلب من بنقلان” ، و”طنين” ، وفي كلا الروايتين يختلط التاريخي بالمتخيل ، ويسيطر عليه بشكل صارخ ، بحيث يمكن للقاريء نسبة العملين لنوع الروايات التاريخية ، ويسهم المؤلف في دعم الوجه التاريخي الوثائقي لعمليه ، ففي طنين مثلا يرفق المؤلف قائمة بالمراجع ، وهذا نوع من التوجيه الذي يقود به المؤلف القاريء ، فهي مصنف علمي وثائقي ، لكن هل يتعارض هذا مع البنية الروائية للعمل ؟ في الحقيقة إن كل عمل روائي يعتمد على مراجعه التاريخية الكثيرة ، فلا يمكن للعمل الروائي أن يكون منبتا عن التاريخ ، إذ لا بد له من مرجعية تاريخية يبنى عليها المتخيل ، فمن لا يبصر القاهرة كأدق ما تكون في روايات محفوظ مثلا ؟ … يظهر التاريخ من خلال الإحالات المختلفة للواقع ، التي تتضمنها بيئة الرواية وفضاؤها ، عبر إشارات زمنية ومكانية ، تحيل على مكان أو تاريخ معين . لكنه قد يشكل جسم الرواية وحبكتها ، وهذا هو ما تمثله الروايات التاريخية ، مثل طنين وقلب من بنقلان .

كثيرون تناولوا العملين الروائيين السابقين ، ومن هؤلاء الدكتور خالد الدخيل ، الذي أشاد برواية طنين ، وقدم حولها ملاحظة مهمة ، ففي طنين يروي سيف الإسلام التاريخ على لسان الأمير خالد بن سعود ، الأمير الذي يقدمه التاريخ كعميل ضد بلده ، متحالف مع الأتراك والمصريين ، والذي هزم في مواجهته لابن عمه الأمير فيصل بن تركي مؤسس الدولة السعودية الثالثة ، و ” كأن سيف الإسلام أراد أن يقول من خلال “طنين” بأن رواية الطرف المنتصر لتاريخ الدولة وما تشتمل عليه من رؤية لهذا التاريخ لا تكفي. هناك رواية أخرى، ورؤية مختلفة تستحق التسجيل، وتستحق الاهتمام. وبما أن رواية الطرف المنتصر هي الرواية السائدة الآن، فإن الحاجة هي لاستعادة رواية ورؤية الطرف الذي خسر الصراع.”

كثير من القيم طرحها سيف الإسلام في روايتيه ، بواسطة النبش في الذاكرة الجماعية ، منها نسبية الحقيقة ، وهو أمر نحن في أشد الحاجة لإدراكه ، ولممارسته ، فما أكثر ما اقترفنا في حق أنفسنا من أخطاء بسبب النظرة الأحادية ، القائلة بأن الحقيقة لها وجه واحد ، يزعم كل منا امتلاكه وحيازته . في طنين مثلا يقدم المؤلف الكثير من حقائق التاريخ بمنظورات مختلفة ، يطرحها جنبا إلى جنب ، ويفتح أمام القاريء مغاليق هذه الحقائق ، على مصراعيها لإعادة التأمل والنظر . إن تعاملنا مع التاريخ كما يقول فلاسفة التاريخ ليس بتقديسه ، ولا بالقطيعة معه ، بل بإعادة قراءته لعرض ممكناته وفتحها على إمكان إعادة البناء . وهكذا تفعل روايات سيف الإسلام بن سعود بكثير من حقائق المجتمع التي يعرضها في ثنايا عرض التاريخ ، ففي طنين يناقش أخطاء ، كانت إفرازا لقيم اجتماعية مؤسسة على النظرة الأحادية للأمور ، وفي قلب من بنقلان ، يناقش قيم البداوة من منظور وافد عليها هو منظور الوالدة البلوشستانية . التي ظلت طوال الرواية تقدم تقارير ونقاشات مستفيضة عن مشاهداتها للبلدان الخليجية البدوية . أما “الكنز التركي” ، وهي الرواية الثالثة لسيف الإسلام بن سعود ، فلم أوفق في الحصول عليها ، لكنها تنبيء عن الاتجاه نفسه ، أعني نبش خفايا الذاكرة ، ومراجعة الذات من خلال مواجهتها ، وتشريحها بأدوات السرد .
مواجهة ذواتنا عبر عمليات مراجعة وتنقيب في الذاكرة ، هذا هو الدرس الأول ، الذي تطرحه علينا روايات الأمير سيف الإسلام بن سعود ، وهي خطوة عملية مهمة لإقامة يوتوبيا قادرة على تنفس وجود صحي ، خالٍ من التشنجات ، وقابل للتحقق والتحرك في كل الاتجاهات . وعلاقة الذاكرة بالمتخيل ، لا تتمثل فقط في بنية الرواية ذات الطابع التاريخي الوثائقي ، بل في ديناميكية الواقع المعيش ، فما من مستقبل يمكن التخطيط له دون ذاكرة ثرية . وذاكرة مجتمعنا مليئة بالدروس ، التي تحتاج لفكر يستوعبها ، ويفكك أسرارها ، ويصل لعمق فلسفتها . من وسط الأحداث ، ومن عمقها جاءنا قلم الأمير سيف الإسلام ، ليخطو خطوات في هذا الدرب الشاق ، والمسؤولية الجسيمة . يبقى للقاريء أن ينتج رؤيته الخاصة لذاته ، عبر غربلة ذاكرته ، وهز مخيلته ، واختيار موقفه من الحقيقة الوجودية ، التي جزء منها التاريخ الجمعي . هذا الموقف الحر ، يمثل الدرس الثاني والأهم من الدروس التي تطرحها علينا ، وتهز بأكتافنا روايات الأمير سيف الإسلام بن سعود ، لنقف عندها ، ونقوم بانعطافاتنا المحورية في صنع مستقبلنا .

ربما يعجبك أيضا