إضاءات حول التجربة المحلية في القصة القصيرة

(1) المسافة بين الواقع والمتخيل في مجموعة (ظلالهم لا تتبعهم) للقاصة: هديل الحضيف

تتعدد  مصطلحات السرد والرواية والقص لكنها تشترك جميعا في كونها تقوم في الأساس على تصوير موقف إنسان من العالم. تنبع أهمية الموقف المحكي من عمق التجربة التي نسجته .. ومن هنا تأتي أهمية الراوي الفعلي (الكاتب) .. موقعه وتحريكه للحكاية بفعل السرد الذي توظف فيه تقنيات عديدة، منها تقطيع الزمن والمكان وابتكار الشخوص وتحريكها واستبطانها بالحوار الداخلي والخارجي ..

و إذا كانت القصة تعرف في الأساس على أنها تصوير موقف من العالم، فإن هذا الموقف يتم تصويره من خلال استحضار واقع العالم الخارجي، وإعادة بنائه في ذهن القاريء .. لكن استحضار هذا الواقع لا يقوم على محاكاة الواقع الخارجي بقدر ما يقوم على الإيهام به،  لتقديم فكرة معينة وإقناع القاريء بها .. وليس معيار الإيهام بالواقع في القصص مقارنته بمرجع خارج النص، أي بتفاصيل ما يجري في العالم الواقعي، بل يقاس بتماسك العالم الذي يبنيه النص وحيويته في خيال القاريء .. ولعل هذا ما يفسر عمل الفانتازيا في القصص، وقوة تأثيرها في القراء،  مع كونها تعتمد على المفارقة بينها وبين الواقع الخارجي ..

ويتداخل موقع الراوي الفعلي (كاتب القصة) من نصه، وعمق التجربة التي يغرف منها في صنع مستوى قوة هذا الإيهام، من خلال قدرته على استخدام خيوط السرد وتقنياته العديدة، ومنها توظيف زوايا نظر مرنة عبر توظيف مواقع الشخصيات، كلغة الحوار على سبيل المثال .. وهي مواقع بقدر ما تكون متعددة ومرنة تعبر عن عمق التجربة التي كونت موقف الكاتب من العالم وتعدد مصادرها وثرائها، حيث تمنح التجربة العميقة الحيوية الكاتب القدرة على ابتكار شخصيات متنوعة، وتركها تنسج حكاياتها، وذلك بأن يترك مسافة بينه وبين شخصياته بحيث تبقى حرة ومستقلة لتعبر عن ذواتها وتنبع أفعالها من طبيعة مواقعها في النص .. وعلى العكس من ذلك حين تكون التجربة سطحية فقيرة المنابع تأتي حركة الشخصيات ضعيفة وأصواتها استنساخا وتكرارا لصوت واحد .. هو صوت الراوي الذي لا يستطيع الانفصال عن شخصياته وتركها تشكل عوالمها الخاصة ..وتتحدث عن نفسها، بل يسخر شخصياته ويقيد حركتها في حدود زوايا نظر ضيقة سببها سطحية التجربة وضعف الموقف الفكري الذي تقوم عليه القصة .. 

موقع الراوي الفعلي(كاتب القصة) داخل نصه، وعلاقة هذا الموقع بعمق التجربة التي ينبع منها النص، وكيف يتداخل هذان العاملان في تحريك عناصر السرد باتجاه اقناع القاريء بموقف معين، الاقناع الجمالي القائم على قوة الايهام باستخدام وسائل التخييل السردي المختلفة. من هذا المدخل اخترت أن أتحدث عن الخط السردي الذي ينتظم فيه كتاب وكاتبات القصة الشباب، في تجاربهم المبكرة .. التي يعد نشرها من قبيل المغامرة والجرأة الأدبية من جهتهم .. وهي جرأة محمودة لو لم يتزامن معها خلو الساحة النقدية من التعامل الجاد مع تلك الأعمال .. فالإنتاج والحركة شيء جميل، فيما لو تحرك في وسط نقدي نشط يوجهه ويقننه باتجاه الأجمل .. ولعل في هذا الركود في التعامل النقدي الجاد مع السرد المحلي ما يفسر أيضا غزارة الانتاج السردي بالنسبة لمراحل زمنية سابقة ..

ستكون البداية بهديل الحضيف في مجموعتها الأنيقة: ظلالهم لا تتبعهم .. الصادرة عن دار وهج الحياة .. وهي مجموعة حظيت بقراءة قريبة من جهة جماعة السرد في نادي الرياض الأدبي .. وهذا ما جعلني أبدأ بها ..

تتحرك قصص المجموعة حول ثيمة البحث عن الهوية، والعنوان يدلل بقوة على هذه الثيمة، منذ الانفصام بين الشخص وظله .. ولم لا تكون الظلال تلك البصمة التي يحاول الشخص أن يتركها لتدل عليه فلا ينجح في إخضاعها لطموحه؟! .. الأدق هنا ليس الطموح بل تحقيق الهوية، ترفض الظلال / الواقع المشاهد متابعة الدوافع الداخلية .. انفصام بين هوية مختبئة في المستقبل المجهول وهوية متحققة، بل بين الممكن الغائب وصوره المتحققة بالتجريب ..

وكل شخصيات المجموعة من الشباب، أي في مرحلة عمرية معروفة بالاضطراب الوجودي، مرحلة تحقيق الهوية من خلال التجريب بين الممكنات المتخيلة .. وهي ممكنات قد يتوافق فيها الطموح والقدرات، أو يصطدمان، وهنا يحدث الخلل الذي يحرك رغبة القاص في الحكي واتخاذ موقف يعرضه بواسطة وسائل السرد .. حين تصطدم القدرات بالطموح يحدث الضياع والتشتت، وتتعقد مسارات التجريب والمعاناة الوجودية .. في هذا الجو تتحرك شخصيات المجموعة .. يدفعهم اضطراب تصورهم لوجودهم الى البحث عن هوية عبر التجريب في مسارات مختلفة تنتهي بنهايات مختلفة .. ومن تعدد هذه المسارات تكتسب القصص تنوعها وتعدد أجوائها .

تنشغل القاصة بالنهاية بمعنى المصير، وتحرص القاصة على تسيير مصائر شخصياتها على خلفية أخلاقية .. يتضح ذلك من خلال حرصها على تقديم تجارب مكتملة تبدأ باختلال في حياة الشخصية يدفعها للتجريب بهدف البحث عن التوازن من جديد، ويقودها هذا التجريب إلى نهاية ما، تفضي بالقاريء إلى غاية أخلاقية، فهي تفسر النهاية أحيانا بقرار شخصي خاطيء، وأحيانا بضغط عادات اجتماعية ظالمة، وقيمة الاجتهاد في البحث عن هوية لا تغيب في القصص جميعا .. وتشترك مصائر شخصيات المجموعة جميعا تقريبا في نهايات مأساوية .. حيث تغيب تقريبا النهاية الايجابية عن مصائر شخصيات المجموعة، فهل هي نظرة سوداوية للواقع؟

يؤلف الالتفاف حول ثيمة البحث عن الهوية كما تم تناوله فيما سبق الخط العام الذي ينتظم مضامين القصص في المجموعة .. لكن المهم كيف عبرت هديل عن كل هذا بالسرد ؟ ما المسافة التي اتخذتها من نصوصها، وما هي زوايا النظر التي تتيحها تلك المسافة للقاصة لمشاهدة عوالم شخصياتها وهي تتحرك في متخيلها ؟ كيف تركت شخصياتها تتحرك: في أي مساحة وبأي كيفية ؟ بمعنى آخر كيف تأثر المتخيل بالواقعي في تجربة هديل الحضيف القصصية ؟ وما هي مظاهر هذا التأثر في حركة السرد لديها ؟

في قصة (ضي) على سبيل المثال مبالغة تربك تماسك المحكي وحيويته، تظهر في اضطراب اتساق تفاصيل القصة، ومن ذلك مثلا عمر البطل، فهو طفل على أبواب المراهقة، يتم شحن تصرفاته بمحمول عاطفي وعقلي لا يتناسب مع عمره، والحس الرومانسي العالي الذي الذي ألمحت القاصة لتبريره بكونه وحيد أمه، لم يتم تحليله جيدا بحيث يقنع .. حيث تتابع نمو الشخصية في الاتجاه العاطفي المبالغ فيه ذاته، شاب عشريني يستغرق سنواته نحو الثلاثين حب أفلاطوني مثالي، ويستمر تأثيره إلى شيخوخته، حيث منطلق الحكي ..

     وهذه مبالغة منشؤها (أزعم)ضعف التجربة الشخصية للكاتبة العشرينية، التي ضيقت مساحة حركة الشخصية في نطاق أفق رؤية ضيق، تسبب فيه موقع الكاتبة من قصتها ..  أعني موقع هديل الكاتبة المراهقة وقصر زاوية نظرها لتجربة عاطفية معقدة في تحولاتها من مشاعر طفولية مختلطة بعواطف أبوية، ثم عاطفة حب طبيعية تدور حول قطبي الذكورة والأنوثة، تنتهي ببرود عاطفي تام تجاه جنس النساء سببه تجربة حب فاشلة ..

يتبدى قصر زاوية النظر بوضوح في ضعف تبرير فشل انتهاء التجربة العاطفية بالزواج، حيث فارق السن ليس مقنعا كفاية. ويتبدى أيضا في المبالغة في مواقف البطل العاطفية وتحولاتها. وهنا يظهر تأثير موقع الكاتبة من قصتها على هذا الارتباك، حيث تقصر المسافة بين تجربتها الشخصية وبين بطل قصتها، بحيث لم تتمكن القاصة من ترك مسافة بينها وبين بطلها تكون كافية لتركه يتحرك في عالمه الخاص مستقلا عنها بحيوية ومرونة واتساق .. يبدو البطل بصوته الذكوري مجرد ظل لعالم هديل الأنثى العشرينية .. فقد تم شحنه برومانسية ذات طابع أنثوي خالص، يضاعف من إرباكه لأفعال الشخصية وتسببه في ضعف حيويتها كون هذه الرومانسية نابعة من مرحلة عمرية تتسم بنقص النضج العاطفي بطبيعتها.   

********

(يتبع) طبعا فلدى هديل الكثير من الروعة ستأخذ وقتها وموقعها هنا عما قريب كما آمل ..

(ما سبق: جزء من مسودة دراسة أحب مشاركتكم بها والاستضاءة بقراءاتكم)

في قصتها ضي قاربت هديل منطقة حساسة من المسافة بين الواقع والمتخيل حين اختارت أن تروي من موقع الرجل. وهذه المنطقة أحد أهم وجوه العلاقة بين الواقع والمتخيل في السرد، أعني الكتابة بصوت الآخر، الرجل حين يروي بصوت المرأة والمرأة حين تروي بصوت الرجل .. وقد نوقش هذا المحور في قصص هديل الحضيف في اجتماع جماعة السرد المقام حول مجموعتها، وسئلت عنه في لقاءات معها أكثر من مرة. وكما هو المعتاد يوضع هذا السؤال بين قوسي تسلط الصوت الذكوري على الكتابة النسوية، وربطها بخلفيات اجتماعية وأيديولوجية، بوصفها عاملا وحيدا تناقش في ضوئه قضايا جنوسة الأدب، في تبسيط مخل بعمق هذه القضية، التي لا تمثل الخلفية الاجتماعية إلا أحد وجوهها. وهو وجه ليس مؤهلا لأن يكون محورا رئيسا في ندوة فنية متخصصة، كما في لقاء مختص بحقل السرد مثلا ..  وأتساءل مثلا: هل يمكن أن تناقش قصة صلاح القرشي (ثرثرة فوق الليل ) في ضوء هذا العامل بين القوسين إياهما ؟ الجواب سيأتي بالنفي طبعا .

الوجه الآخر لقضية الكتابة بصوت الآخر هو وجه يدخل في صلب بنية الأدب الفنية، من حيث طبيعة تمايزه نشاطا بشريا يقوم على الشكل، وبالشكل يؤسس مضمونه ويقول ..

من موقع الراوي الفعلي من نصوصه، بل حركته داخل السرد سنلقي الضوء على هذه الظاهرة كما جاءت عند هديل.

 قاربت هديل حين اختارت السرد بصوت الآخر الذكوري منطقة تتأسس أصلا على الفروق الحادة في أظهر صورها بين الأنوثة والذكورة، بل على أساسها تم التمييز الجنساني بين شكلين لوجود الكائن البشري، أعني منطقة العلاقة المركبة بين الذكر والأنثى، من المنظور البيولوجي والسيكولوجي في تعقيدات تعالقهما على المستوى المادي والروحي والفكري ..  وهي منطقة لم يجرؤ على خوض غمارها إلا القلة من الأدباء، نذكر على سبيل المثال تجربة نزار قباني الشعرية، مع اتخاذ عامل السن وعمق التجربة في الأهمية .. وصعوبة هذه المنطقة مبرر قوي _  يضاف إلى حداثة السن والتجربة _ لإخفاق هديل في اتخاذ موقع يتيح أفقا أوسع لمقاربة تجربة في هذه المنطقة الصعبة، ومن ثم الانفصال عن بطلها لتتركه ينشى عالمه الخاص، ويتحرك فيه بحيوية مقنعة للقاريء ..

ولعل هذه العوامل مجتمعة جعلت القاصة تعتمد كثيرا على الاستبطان النفسي الداخلي مجردا، مما أدخلها في موقع تنبؤ عشوائي، حيث هي التقنية الوحيدة المتاحة أمامها لمقاربة منطقة صعبة بخبرة ضعيفة، فهي تتقمص بطلها نفسيا، بحيث تكاد تنعدم مسافة الرؤية. وتزعم هذه القراءة أن القاصة فشلت في هذا التقمص بحيث بدا بطلها كائنا هجينا، تم تكبيله داخل حدود رؤية القاصة وتجربتها .. ولعل هذه القصة من التجارب المبكرة جدا لهديل ..

وللمزيد من الإضاءة حول هذه النقطة سأقارنها بصلاح القرشي في (ثرثرة فوق الليل). اختار صلاح زاوية أسهل من المنطقة ذاتها (العلاقة بين الرجل والمرأة) حين تحدث بصوت بطلة أنثى .. حيث مساحة أقرب للمشترك الوجداني ،أعني عامل الوحدة والوحشة والخوف من المجهول، كما أن الموقع الذي اختاره للحديث موقع يتيح له زاوية نظر أوسع لمقاربة التجربة من منظور الآخر / الأنثى .. حيث لم يعتمد الاستبطان المجرد لانفعالات بطلته، بل وظف مشاهدات خارجية لوصف نفسية بطلته، بمعنى أخرج دواخل بطلته للخارج، ووضعها في موضع مادي متحرك ومشاهد، وبذلك استطاع إشراك القارىء في تلمس انفعالات الشخصية، ومن ثم الاقتناع بها ومعايشتها، عبر حيوية كانت هي مصدر الإيهام القوي الذي يقوم عليه الفعل الجمالي في قراءة نص أدبي ما .. كان صلاح يراقب بطلته وهي تتحرك ويسجل بعدسة سارد حساس، من زاوية تتيحها مسافة كافية لنظرة أشمل اتخذها السارد بينه وبين عالم بطلته .. هكذا جاءت في القصة غرفتة البطلة وتلفونها وصوت ضحكتها الرامز بقوة .. وحتى حين لجأ لإبراز حالة اليأس في مشهد النافذة _ وهو مشهد يمكن أن يؤخذ من قبيل المبالغة _ وجدناه يعرضه بلغة تقرّبه من شكل التوظيف الفانتازي،  حيث يتم توظيف التحولات الفانتازية أحيانا لتعميق المغزى، كما حدث في خاتمة الثرثرة التي حملت كما ينبغي قمة الطاقة الانفعالية،  لكن مشهد النافذة يمكن ربطه أيضا بتحولات تفكير البطلة ونفسيتها واقعيا، بنفس القدر الذي يمكن تلقيه فيه على أنه مشهد فانتازي موظف لتجسيد انفعال قوي، للإيهام بحالة انفعالية، وإن يكن هذا الإيهام قائما على هز رابط القصة بالواقع المادي ..

************                                                                               في تجربة السرد بصوت الآخر تبقى المنطقة الفكرية والروحية، وهي منطقة قاربتها هديل بنجاح في قصصها الأخرى .. وهذا هو محور حديثنا في المرة التالية بحول الله ..

كوني قريبة هديل .. وتحمليني ..

وتواصلي معي على موجة الحب ذاتها التي تدفعني لاستبطان تجربتك .. لأن العامل الأول لأي قراءة هو عاطفة حب تنشأ بين القاريء والعمل .. تجبره على ما يشبه إدمان الحوار معه وحوله حتى حين  ..

الآبق مثلا والذاكرة الممسوحة

وقبل أن نبتعد

بمعنى أنها تحرك الراكد في ذاكرة القاري بصدمته كما في قصة مسعد أو بغموض يدفعه لنبش ذاكرته لإكمال الصورة كما في قصة ابن الزنى عند هديل حيث ينبعث صوتان مجهولان يجبران القاريء على تحديد هويتهما وموقعهما ليكمل المشهد الذي تم خرقه بقوة عند الخاتمة

هل هما المجتمع والفرد

العقل والشهوة

هل تثير هديل سؤالا عن من المسؤول في نهاية البطل المأساوية

لكن الغموض هنا مفرط بحيث شتت الدلالة

وهذا أحد عيوب المجموعة في توظيف الغموض ربما سببه اللغة

ربما يعجبك أيضا