هل رأيتني؟ كنت أمشي في الشارع!

الحياة تروى والقصص تعاش: تماهي الواقعي بالمتخيل، في (هل رأيتني؟ كنت أمشي في الشارع)

الأم والزوجة والأنثى والعاشقة والطبيبة والصديقة، هكذا وأكثر عرفت نفسها هناء حجازي، في إحدى قصص المجموعة. منذ البدء تواجهك بكونها تكتب نفسها، لكنها ليست كتابة مفتوحة عائمة، ليست السيرة التي يقصد من ورائها مجرد البوح، فنحن في (هل رأيتني؟ …) نجد أنفسنا أمام بناء قصصي، له فضاؤه المحدد بلحظة دخولها كلية الطب، ونهايته المحددة بلحظة استسلامها لروتين الحياة الذي وضعها فيه القدر. بين اللحظتين تدور قصص المجموعة. كون هذه النصوص هي سيرة، كما تقول الأسماء والأمكنة، لا ينفي عنها كونها سرودا لم تفلت شروط السرد المتعارف عليها. هناء حجازي، كاتبة هذه المجموعة القصصية تملك تجربة تؤهلها لأن تكون هي بذاتها بطلة القصة وساردتها، وهي في حياتها التي تشبه القصص بمثابة تجسيد متقن لمقولة (القصص تعاش، والحياة تروى). هكذا قررت هناء أن تترك القارئ يعيش منطقة التباس الواقع بالمتخيل، السيرة بالسرد، عبر ما تم تصنيفه على ركن الغلاف بـ: (نصوص).

تضعنا الكاتبة على عتبة اللحظة البداية، من حياتها المسرودة في أول صفحات الكتاب، وهي تعلن عن انطلاق الفعل الأول، الحدث الأول، وصفارة بدء المباراة مع القدر، يوم دخولها كلية الطب، وما تلاه من أحداث موازية تجتمع في كونها لم تصدر عن تخطيط ولا عن فلسفة مصطنعة: “……….”. هناء البنت البسيطة التي غاية طموحها أن تتحرر من إطار الصورة، وتنزل لتمشي في الواقع/ الشارع، ليلمس الهواء بشرتها، ويحولها إلى كائن حي قابل للعطب، للبكاء، للفرح، للصراخ، وليس وجها زجاجيا مثبتا في إطار، معلق على جدار ضخم عال وشاهق. هذه فكرتها عن واقع الأنثى، وموقفها من الواقع المخيب، الذي كان والذي تغير بفعلها، بشروط كينونتها كائنا فاعلا.

هناء الشخصية في النص هي صاحبة الأفعال غير المدروسة وغير المشروطة وغير المبررة، تزوجت بدون سبب، وعشقت من دون مبرر، وهي تقرن التبرير بضعف الكينونة، فهي التي لا تحتاج أن تبرر لأحد خياراتها، ولا حتى نفسها. هذه العلاقات اللاسببية بين أفعال البطلة تعلن عن سرد واقعي بحت، تختفي فيه المسافة بين الواقع والمتخيل السردي، فعالم النص هنا وعلاقاته هي ذاتها علاقاته في الواقع، العلاقات التي لا يمكن لأحد تبريرها وتفسيرها إلا في ضوء المفهوم الغيبي: القدر. اختفاء السببية التي تشف عن اختفاء المسافة التي يمكن ملؤها بالتأمل والتحليل المنطقي السببي، بين الواقع والمتخيل في العالم المسرود.

المكان: جلسة الصالون أمام التلفزيون، الزمان: فترة الاسترخاء التي لا تتجاوز الساعة، الحدث: لحظة التفاعل الجسدي والنفسي بين البطلة وشريكيها في المنزل: الزوج والابن، ضمن حدود المكان والزمن ذاته، وبالتالي رد الفعل النفسي الذي تلخصه في جملة أو عدة جمل قصيرة. ضمن هذه البنية المحددة بدقة تنتظم قصص المجموعة، وتتساوق اللغة مع هذا الاختزال، فتجيء في صورة عبارات قصيرة، مكونة من جمل مختزلة الى أخصر تركيب، خالية من التفرعات والزخرفة من أي نوع. إنه الانفتاح التام بين الواقع والمتخيل عبر جسر اللغة، ورفض كل ما يمكن أن يشوش هذا الوضوح والصفاء والشفافية بين اللغة ومحمولها الواقعي.

في قصص هناء إذن لا توجد مسافة بين الراوي الفعلي والراوي السردي فهما الشخص والصوت نفسه، لكن هل يعد هذا سببا في ارتباك عوالم السرد؟ في الواقع نحن حين نتطلب بعدا كافيا بين الراوي الفعلي والسردي نكون نتحدث عن عالم متخيل، وعن شخصيات خيالية، وهذا ليس الأمر في نص يعلن عن انتمائه للسيرة بالعلامات والقرائن. والإقناع في هذه الحالة ينشأ عن واقعية السرد، التي تدعم عمق التجربة المحركة للنص، إذا ما نجح الكاتب في أن يخرجها ضمن بنية سردية مقنعة. ومن جهة ثانية يحتاج الراوي الفعلي للمسافة إذا كان ينظر إلى شبكة معقدة من العلاقات لا يمكن أن يراها بوضوح من قرب، لكن قصص المجموعة تنتمي إلى القصص الكلاسيكية التي تمتثل الشرط التقليدي للقصة القصيرة، أعني وحدة الفعل والزمان والمكان والشخصية غالبا، وهذا لا يتطلب أي مسافة للرؤية. ولعل هذه البنية تكون هي الناتجة عن اختفاء المسافة بين الراوي الفعلي والسردي، ولن نتوقف طويلا عند تحديد أيهما السبب وأيهما النتيجة، فقد يكون الأمر متبادلا فيما يشبه الحلقة المفرغة.

في مجموعة هناء حجازي (هل رأيتني؟ ..) يصعب الموائمة بين العلاقات اللامنطقية الخالية من السببية بين أفعال الشخصية، والتزام الكاتبة بالشكل الكلاسيكي لكتابة القصة القصيرة. ذلك لأن انتفاء السببية وتشوش الإدراك أمران ينتميان لعالم ما بعد الحداثة، حيث صعوبة تحديد الأشياء، وتبريرها، بينما التزام الشروط الكلاسيكية للقصة القصيرة أمر ينتمي ليوتوبيا حداثية، كانت ترمي إلى تصنيف كل شيء، اصطداما بقانون الكون الذي يتأبى على التحديد المغلق. هذا التوتر بين العالمين يعيشه جيل من الكتاب والمبدعين، مؤلفين بذلك نكهة خاصة للكتابة،  تتجاور معها طريقة كتابة جيل من الكتاب نشأوا في عالم ما بعد الحداثة، لكنهم يتوقون بقوة إلى قيم الالتزام والوضوح والتحديد، فكتبوا نستالوجيا حداثية بلغة ما بعد حداثية، نجد ذلك في قصص عبد الله التعزي، وزهراء الموسى، وعائشة القصير، ونوال الجبر

ربما يعجبك أيضا