الدويحي متلبسا بالكتابة

يطرح النص في “المكتوب مرة أخرى” للدويحي أسئلة حول الكتابة من واقع تشكله ومن واقع حكايته، فهو يحكي قصة كاتب تتلبسه حالة كتابة. يتتبع الراوي/البطل تفاصيل الإبداع، وتخلّق النص لحظة بلحظة. هو راو يروي حكاية الرواية. يعيش في منطقة بين عالمي الكتابة: الواقع والمتخيل، وبين هذين العالمين تجري أحداث الرواية.

من هذا المدخل يمكن أن نقرأ/نكتب: المكتوب مرة أخرى، نكتبه لمرة أخرى. ويظل مفتوحا قابلا للكتابة مرات ومرات بعدد القراء.

أسئلة القراءة هي نفسها أسئلة الكتابة، تنجح القراءة بقدر ما تستطيع أن تكتب النص من جديد، لكنّها لكي تفعل ذلك تحتاج لنص يكتنز ببذور قابلة للتخلق نصوصا أخرى.  هكذا ينشغل هذا النص بأسئلة الإبداع/المنهج/النظرية/منذ العنوان: المكتوب مرة أخرى، وكأني بالنص يوقع عن نفسه بأنه ناجح لأنه مكتوب مرة أخرى.

السؤال الجوهري  الذي ينشغل به النص من كل وجوهه:

هل القراءة/ الكتابة منهج جاهز، قالب يُحشَر فيه النص ؟  أو هي جنين يتطلب وجوده زواج طرفين، يتخلق وينمو ويرث صفات الأبوين، يعاد خلقهما من جديد عبره، بحيث لا يمكن تمييز أحدهما من الآخر. إنه نتاج عدة أزواج: النص والسياق/الواقع والمتخيل/الأنا والآخر/الملفوظ والمسكوت عنه ….

يمكن أن يقال هذا الكلام عن أي نص. لكنه مع “المكتوب مرة أخرى” يقال بطريقة مختلفة. حيث هذا النص منشغل بفعل الإبداع حد الاستغراق ، بحيث يشكل قصته وقضيته، حكايته وحبكته ومنظوراته. وبسبب من هذا  يتطابق الراوي والمروي والرواية، الفعل والفاعل والمفعول هم الشيء نفسه. يذكرنا تداخل هذا الثلاثي بتداخل لحظات الزمن الثلاثة عند هايدجر: الماضي والمستقبل والحاضر، أو بالأحرى تخارجها كما يعبر هايدجر حرفيا، حيث في هذا التخارج يتميز زمن من آخر، وتتشكل ملامح الآن ( اللحظة الآنية )، وإذ لا يمكن اكتمال تمايز اللحظات الثلاث تماما بعضها عن بعض بحسب نسبية الأشياء. كذلك لا يمكن تمييز الراوي من روايته ومرويّه في (المكتوب مرة أخرى).  من هنا تأتي صعوبة قراءة هكذا نص، لكن جمالها كمغامرة في الوقت ذاته. كونه فلسفة للنص من حيث هو مجال الوجود، وللكتابة/القراءة من حيث هي فعل وجود. وبحسب فلاسفة عديدين _ ليس آخرهم ريكور عبر “الهوية السردية “، وليس أولهم هوسرل في ظاهراتيته _ تشكل اللغة مركز كل فلسفة للوجود ..

وإذ ينشغل هذا النص بأسئلة الإبداع: كتابة و قراءة، ويعرض قصة الخلق الإبداعي من أولها. كيف تتخلق الشخصيات وتنمو. ومن أين تأتي. كيف يبدأ نسج العلاقات بينها، يمكن القول إن “المكتوب مرة أخرى” هو نص يعطي معايير نجاحه. ويصوغ مفاتيح قراءته. ليس بالمعنى النظري الغفل … وإنما بالمعنى الحرفي.

عبر هذا النص نرى الشخصيات تأتي من تداخل الوعي واللاوعي، تبدو مجهولة لأول وهلة ثم لا يلبث أن يجدها الراوي البطل في ذاكرته. وهذا إقرار بأن الكاتب لا يمكن أن ينفصل عن واقعه حين يكتب حتى لو أراد ذلك، لكنّ هذا الواقع لا يحضر كما هو، بل يتحول إلى سياق: مادة خام تختلط مكوناتها ويعاد تكوينها من جديد، لتكوّن النص، ومن ثم يعود النص ليكون الواقع، حيث  يتم سرد واقع البطل وحياته من خلال فعل السرد نفسه، حيث البطل هو كما قلنا كاتب يعيش توتر فعل الكتابة، كتابة رواية. وبالتبادل تتكشف تفاصيل فعل السرد من خلال حياة البطل نفسه. أقرب مفهوم نقدي يمكن أن يشرح هذه العملية المعقدة هو مفهوم الجشتالت/كما هو معروف في مدرسة التحليل النفسي. وكما استخدمه الناقد الألماني آيزر، حيث فعل القراءة/الكتابة يمثل دائرة لا يمكن تحديد نقطة بدايتها. غير أننا تجريبيا نقول: في البدء كانت الكلمة، وعبر اللغة ينشأ الواقع ويتشكل، ومن ثم يعيد الواقع تشكيل اللغة التي يوظفها المبدع ليصنع نصا، ومن تزاوج اللغة والواقع على عدة مستويات يولد النص. الحياة كما يرى الكاتب نص يكتب. يقرر ريكور هذا في “الهوية السردية”، حيث حياة البشر بحسب “الهوية السردية ” عند ريكور سرد ينمو ويتشكل …. ويبدو وعي الكاتب بالهوية السردية عند ريكور واضحا منذ اقتباسه عبارته في مقدمة الرواية. الحياة إذن هي نص ينجح بقدر ما يكتب من مرات، و النص هو حياة تنجح بقدر ما تتخلق من جديد كل مرة .

قد يسعني هنا أن أشير إلى اتجاه النص للغرائبية، للعالم غير المنظور. عالم الجن والظلال. وكما نعرف كانت نظرية الإلهام أقدم نظرية تفسر فعل الإبداع، ويبدو أنها _و برغم كل ما أفرزته العصور الحديثة من تقنيات _ لا زالت التفسير الوحيد المقنع لدى المبدعين أنفسهم. منذ شياطين الشعر، إلى أحدث الروايات اليوم. ولعل الأمر مرتبط بالجزء الأسطوري من تفكير الإنسان، حيث يلجأ لما وراء المشاهد حين تعجزه الوقائع، ولهذا ظل مفهوم الإلهام بمختلف تشكلاته الحديثة بابا للمبدعين حين يتفكرون في فعل الإبداع، بعد أن هجر النقاد والمفكرون هذا الباب وأضاعوا مفاتيحه.

وهو اتجاه نجح في توظيفه على المستوى العربي الروائي ” إبراهيم الكوني”،  وانتهجه خطا للكتابة لا يكاد يحيد عنه، وكذلك فعلت “رجاء عالم” في عدد من رواياتها الفريدة. وأبدع “الطاهر بن جلون” في توظيفه في “طفل الرمال” حيث ينسج قصته في عالم المتخيل، وينشغل  بفعل السرد حيث يشارك أكثر من شخص في صنع الرواية وتظل تتخلق داخل النص ويتابع القاريء تخلقها وتغير مساراتها وإعادة خلقها أكثر من مرة. هو اتجاه آخذ في النمو في قصصنا المحلي، فالقاصة السعودية أمل الفاران في “روحها الموشومة به” انتهجت هذا الأسلوب، مع اختلاف مستوى التوظيف ودرجته، وقريبا منها رواية  “وادي العشرق” الصادرة حديثا.

كثيرة هي نظريات الإبداع التي ناقشها الدويحي في روايته من منظور ذكي/حيث شخصية كاتب/في ثوب كناس. ولا يمكن اتهامه بالتعقيد وجفاف اللغة، لأنه طرح أسئلته من منظور البطل الذي هو نفسه الراوي وهو نفسه المروي.

من أسئلة النص الذكية والتي ساهمت في جعله مفتوحا متاحا للكتابة مرات ومرات بعدد قراءاته:

  1. علاقة الشعر بالصوت ص67 .
  2. تداخل الوعي واللاوعي في خلق شخصيات القصص .
  3. مراحل الإبداع: واكتشاف دروبه من الفوضى والعشوائية إلى مرحلة التنظيم ص66 .
  4. أسئلة حول معيارية التشكل للشخصيات: البطلة صفر – البطلة واحد – البطلة الحلم. ولادة الشخصيات من العدم، أو من شخصية أخرى متحولة. أو نموها. واستعراض حالات تشكل الشخصيات كافة..
  5. اللغة والإبداع: كيف تخلق اللغة الواقع والمتخيل معا. كيفية اختيار اسم الابن المتبنى للأخت: سعيد. ساري/ثم اختيار البطل اسم ” ساري”، حيث نعرف فيما بعد علاقة اسمه بمصيره.
  6. قوله ص 64 أنه يدس لغته في أي حوار بين اثنين/كما لو كانت اللغة حبل اتصال بين الواقع والمتخيل يولد عبره الحوار ومن ثم الحدث. أيضا كيف ساهمت الروايات التي يقرؤها في اختيار بطلاته ونحتهن. ص65 ايضا

وأسئلة كثيرة أخرى مبثوثة في ثنايا النص، بحيث يمكن القول مرة أخرى: إن “المكتوب مرة أخرى” كتابة مشغولة بفعل الكتابة فمن البديهي أن تكون قراءتها مشغولة بفعل القراءة ..

ربما يعجبك أيضا