البارع ، ونصف

2009

لبارع ونصفه ، ليسا جزأين من عبارة شعبية دارجة ، إنما ستجد نفسك تبحث عن عبارة مماثلة حين تشتبك مع سطور رواية الكاتب (إبراهيم الزنيدي ) ، المعروف في منتديات الانترنت بلقبه “البارع ” . تميزت كتابات البارع بمسحة من السخرية تؤطر تأملاته الفكرية المتواصلة ، غير أنها سخرية ذات إيقاع فلسفي مطرد ، بحيث يستطيع القاريء المتابع أن يميز ملامح فلسفة معينة للحياة يبنيها البارع ، في تفاعله مع الآخر / القاريء / الكون . ” تسكعات على خطوط الزمن ” ، العنوان الجانبي للرواية ، يحيلك مباشرة على لعبة زمنية للنصف ، وما إن تنتقل لعبارة أرسطو التي تعترض دخولك للرواية ، على ركن صفحة مستقلة ، حتى يكتمل الإطار الفلسفي الذي ستقرأ الرواية / اللعبة بين خطوطه .

يوحي “إبراهيم” ، الراوي / البطل في النصف ، للقاريء ، بأنه مقبل على سيرة ذاتية للكاتب الفعلي “إبراهيم الزنيدي”، لكن ما إن يستمر في القراءة ، حتى يفقد حماسه للجزم بانتماء الكتابة التي يطالعها إلى نوع السيرة الذاتية من عدمه . سيجد القاريء نفسه يقرأ حكاية تبحث عن المعنى ، وأمام راو يبحث عن ذاته ، يلملم أطراف سيرته ، وتنتهي الرواية دون أن ينجح في هذا . لذلك ، ليست السيرة الذاتية شكلا للرواية يوحي به اسم البطل ، مفصلا مهما في الرواية . ما يلفت النظر عوضا عن ذلك ، كوظيفة لتطابق اسم البطل مع الكاتب الفعلي ، هو تطابق فلسفة “إبراهيم” : الراوي / البطل ، لسيرة تتفكك في سعيها للتحقق ، مع فلسفة تضج بها لغة “البارع” ، الكاتب لسيرة تتحقق عبر التفكيك . البارع في انثيالاته النثرية المتفرقة في مفازات الكتابة ، بحثا عن ظل يجمعها في كيان ، و إبراهيم في رواية تتشظى بقدر ما يتشظى ظله على منافي المعنى .. 

في الرواية “نصف” نحن أمام سارد بطل ، يتحدث من موقع مزدوج ، سارد بطل ، يسرد سيرة هو آخر من يفهمها ، وأبعد ما يكون عن الاهتمام بفهمها ، كما لو يكون يطالع ذاته من الخارج ، من موقعه داخلها . يتبدى ذلك عبر الذهول الذي يغلف لغة السرد ، والبلادة التي تضج بها ، في تعبير صارخ عن عبثية ما ، عبثية تبدأ من كون السارد ليس معنيا بما يروي ، زاهدا في الكلام حتى النهاية ، ولا تنتهي عند حافة اللامعنى التي تنعقد حولها حبكة الرواية ، وفي هذه العبثية يكمن الخطاب الذي تحمله الرواية ، ويتم سرده عبر تقنيات السرد .

في كتابه “ست نزهات في غابة السرد” تساءل إيكو عن وجود حبكات بدون قصص ، في مقابل القصص التي تفتقد إلى حبكات تبعثرها لتجمعها ، وفق خطة سرد معينة ، (ست نزهات في غابة السرد / ص ) . يناقش ايكو هذه الفكرة من خلال تناوله لخطة سردية تقوم على التلاعب بالزمن السردي ، بحيث تتوه القصة ، ويستحيل تجميع أجزائها على القاريء . وفي رواية البارع “نصف” نشهد صورة مختلفة لبعثرة القصة ، صورة توظف منطقية الزمن الافتراضي ، في أنصع مظاهرها .  تتتابع أحداث القصة في زمن سردي بسيط ، حيث يسرد الراوي قصة هجرته من القصيم ، ليحقق ذاته في المدينة الكبيرة ، ثم يفاجأ بالمدينة الكبيرة لا تعترف بقيم العمل والجدارة ، فيتقلب في موجات فشل متتالية ، تنتهي بالسجن ظلما ، وفي السجن يرسم الراوي مجتمعا معادلا في عبثيته للمجتمع الخارجي ، ثم يخرج من السجن ويقرر العودة للقصيم ، لتنتهي حكايته بقتل خطأ ، يدفعه للهرب إلى جهة مجهولة ، لا يختارها ، ولا يسمح له باختيارها ، مثلما كانت كل أحداث القصة تنتظمها الصدفة ، في زمن لا يعترف بقرار الإنسان واختياراته . بهذه الصورة جاء الزمن في “نصف” ، زمنا لا يعتمد التقطيع المعقد ، بل إن زمن السرد هو زمن القصة مختصرا ، في موازاة تقترب من التطابق ، لكن القاريء مع ذلك لا يستطيع تجميع القصة التي يبحث عنها خلف السرد ، ذلك لأن ما يريد أن يسرده الراوي فعليا هو اللاقصة .

 وإذا كنا انطلقنا من كون الرواية تعتصم بسياق السيرة ، فإن الراوي حينئذ سيكون يروي اللا سيرة . يريد الراوي أن يجعلنا نصل معه إلى فلسفة عبثية وجودية ، لا تتطلب تعقيدا سرديا لسردها ، لا الزمن ، ولا المكان ، ولا الشعرية والغموض في اللغة . الخطاب الذي يريد الراوي “إبراهيم” أن يوصله لنا هو أن الحياة معقدة وغامضة بما يكفي .. اللاقصة ، اللاسيرة ، اللامعنى ، كل ذلك يمكن سرده بطريقة أكثر واقعية بالفعل السردي البسيط في منطقية زمنه ، في حبكة تعترف بسذاجة كل ألعاب السرد أمام سردية الواقع ، بعبثيتها وانعدام المنطق فيها .

من جهة أخرى الزمن في نصف ليس زمن الحدث ، إنه زمن الجملة السردية ، ليس زمن القصة ، بل زمن اللغة التي توجد من خلالها القصة ، ويحاول الراوي أن يحقق سيرته / وجوده من خلالها . اللغة بما هي مظهر الوجود الأول والأخير ، يحاول الراوي عبرها تحقيق وجوده /إدراكه للوجود ، باستيعابه وفهم منطقه ، عبر استعراض طرف من سيرته ، حيث فعل السرد هنا هو فعل وجود . تحمل لغة الرواية خطابها الوجودي بحملها الحبكة . وفي حبكة اللغة ، في فضائها المتشظي على ذاته ، في التلاعب بزمن الجملة وعلاقاتها المكانية ، يقدم الراوي خطابه الوجودي ، رواية قصته ، التي تنتهي إلى اللاقصة ..

في أحد مقاطع الرواية يقول الراوي : ” في قهوة البستان كل شيء مبرر ما عدا القهوة نفسها ، هنا تولد الحياة فوق رأس الشيشة ، تتصاعد دخانا لترسم الطلاسم . باعة الساعات لهم قصة مضحكة ، إذا عرضت ساعة باهظة قل للبائع : (لا أريد ساعة ، أريد خمس دقائق فقط) حينها سيبتسم بوجهك ، ويخرج لك المصائب السوداء من كل مكان ” . علاقات الإسناد المنطقية بين مكونات الجملة هنا تختفي ، ليحل محلها المجاز. وليس المقصود بالمجاز في لغة الرواية الغموض والرمز ، بل إنه مجاز أقرب إلى محاكاة مجازية الواقع ذاته . الحياة التي تولد فوق رأس الشيشة ، هي حياة واقعية ، لا ترمز لشيء غير نفسها ، هي التهيؤات التي تخلقها المخدرات والمفترات في وعي مرتادي القهوة ، وهي حياة واقعية بالمنطق الظاهراتي للوجود ، بما أن الواقع هو واقع بقدر ما يدركه الشخص . عبر المخدرات التي يروج لها باعة الساعات في قهوة البستان ، يتم بيع الوجود الوهمي ، الوهم بزمن وجود يحسب بالدقائق ، هكذا يصبح بيع الزمن حقيقيا لا مجازيا في هذه الجملة. هي لغة تربك علاقات اللغة ومنطقها النحوي ، منطلقة من عبثية الواقع ،  وليس  لغاية الغموض الرمزي اللامبرر ..

في مقطع آخر يقول الراوي : “أمران إن سيطرا ، قمعا أي محاولة للتعبير ، الشوق والخوف ، لا أتمنى لأي حبيب أن يخاف من شوقه ، وأتمنى للبقية المحايدة أن يشتاقوا لخوفهم ” . في هذه الجملة سنجد أن زمن الجملة النحوي/المنطقي ، يتفكك ، “الشوق والخوف ، أمران إن سيطرا قمعا أي محاولة ….. ، لا أتمنى أن يخاف أي حبيب من شوقه ….. ” . هذا هو التركيب الأصلي للجملة ، ابتداء بأطراف الإسناد الأصلية ثم الفرعية ، بحسب علاقاتها المنطقية النحوية .. لكن الراوي يبعثرها..

زمن الجملة إذن هو من يحمل الحبكة التي تنعقد حول اللامنطق ، عبر علاقات المفردات داخل الجملة ، سواء العلاقات النحوية أو الإسنادية ، لكن هذه الحبكة كما لاحظنا لا تبعثر زمن الواقع ، بل تجسد لا منطقيته ، وتكشف عن اللامعنى فيه . وفي المقطع التالي تتجسد هذه الفكرة بوضوح أكبر ، يقول الراوي فيه : ” لو كانت عندي ساعة متعطلة ، لكانت تشير إلى الوقت الصحيح مرتين في اليوم ، ولكني لا املك ساعة ولا أريد أن افعل ، لأنها ستشير دوما إلى نفس الوقت الذي أشارت له بالأمس في نفس هذا الوقت ” . تنتزع هذه الجملة لحظة عبثية قاسية للواقع ، صورة للا منطق الزمن ، وتنقلها كما هي دون أن تتوسل بفذلكة شعرية ولا التفافات لغوية ، ينتقل زمن الفعل (ستشير ) من المستقبل إلى الماضي (أشارت) ثم يعود إلى الحاضر (في هذا الوقت ) ، ليس في هذا المقطع كما نرى حضور للعبة لغوية ، سوى تجسيد للعبة الزمن الواقعي نفسه .

          وإذن ، هل نحن أمام تيار اللامنتمي في رواية تعلن اكتفاء الواقع بسرديته عن ألعاب السرد ؟ الواقع يحمل حبكات مأساوية غنية عن السرد ، تحتاج للتفكيك بدل التعقيد .. لذلك يمضي ابراهيم الزنيدي في تفكيكها عبر منطق الزمن السردي المتتابع .. يحاول بمنطق بسيط للزمن أن يفكك عبثية الواقع فتأبى إلا أن تنكشف عبر اللغة ، عن تعقيد يتزايد ، حد الانغلاق دون المعنى . وفي نهاية الرواية ينغلق السرد / اللغة دون المعنى ، فينفتح الزمن على اللامعنى ، ساعتها تنتهي الرواية ولا تنتهي القصة التي لم تبدأ بعد ….

ربما يعجبك أيضا