نحو تواصل منتج وفعال

https://www.okaz.com.sa/article/105679

2007
تناولت في مقال سابق الذهنية الحدية ، التي تنظر للأمور بصورة غير واقعية ، قائمة على التصنيف الحاد للأشياء . صاحب هذه الذهنية لا يعرف التوسط ، فهو متحيز دائما لصالح جهة ، ومتعصب ضد جهة أخرى ، يرى فيها الضد لما يتحيز له . وذلك وفق منطق الثنائيات الذي يفسر الوجود على أنه صراع ين ثنائيات متقابلة ، وهو صراع لا يمكن أن يحسم لصالح احد ، كون هذه الثنائيات ليست منفصلة بعضها عن بعض في واقع الأمر ، بل الفواصل التي تفصلها هي مجرد خطوط وهمية ، تستولي على صاحب الذهنية الحدية ، وتعميه عن حقيقة الأشياء ، وطبيعتها القائمة على النسبية والتداخل .
وقد حكم على كثير من الأفكار والقيم الضرورية للإنسان بالموت والانزواء ، بفعل التعصب الأعمى الذي ينتجه منطق الثنائيات . وهذا ما يجعلنا نلتفت إلى ضرورة الاعتراف بالمنطقة الوسط بين كل ضدين ، وهي منطقة تترسب فيها عوامل الاشتراك ، والتداخل ، التي تحكم طبيعة الأشياء عمليا . وهذه المنطقة هي ما تركز عليه فلسفة التواصل ، كنظرية اجتماعية نقدية وفلسفة للوجود ، فعلى النقيض من منطق الثنائيات الذي تحكمه الصورية ، والمتعالي على الواقع ، تسعى فلسفة التواصل للنظر للأشياء في عالمها المعيش ، وهي تمارس الوجود . وفق هذه النظرية ، لا يمكن لشيء أن يوجد في عزلة وسكون ، بل شرط الوجود هو الحركة التي تقوم على علاقة الشيء بما حوله .
التواصل هو عنوان لمجموعة من النظريات والفلسفات الاجتماعية والفكرية ، يتجه إليها الفكر العالمي الحديث ، ويرى فيها حلولا لكثير من مشاكل البشرية وأزماتها ، لكن كيف يكون طابع هذا التواصل ، في ميدان المجتمع مثلا وهو أهم ميادينه ؟ يرى فلاسفة هذه النظرية أن التواصل المنتج الفعال ، له شروط وضوابط اهمها المصداقية ، ومنها الدقة والصلاحية والمسؤولية . هو تواصل يقوم على النقاش الجاد البناء ، الذي يتم فيه البحث عن نقاط الاشتراك ، والانطلاق منها ، وهو نقاش يقوم على المكاشفة المسؤولة والصراحة المتناهية ، التي تتيح للمجتمع اكتشاف عيوبه ومشاكله وطرحها للنقاش والعلاج ، أما ضوابط المسؤولية والدقة والصلاحية، فتتعلق بواقعية القضايا التي يتم نقاشها وتحليلها ، وعملية أسلوب النقاش ومنهجه ، فأي قضية يتم نقاشها يجب أن تكون في مستوى التداول ، أي في مجال الممارسة الوجودية الفعلية ، وليست مجرد تصور نظري لأحد المتكلمين ، و في المستوى نفسه يجب أن تكون الحلول المطروحة .
النظرية التواصلية إذن ليست مجرد طريقة لرؤية الأشياء في واقعها العملي القائم على الاتصال والتفاعل ، بل هي نظرية تطرح طريقة للوجود ، ولرؤية الأشياء ، في واقعها العملي الحي ، والتعامل معها . وعلينا أن نتقدم حثيثا باتجاه تحقيق تواصل منتج ، سواء في حياتنا اليومية ، أو في حياتنا الاجتماعية الواسعة . ونحن إذ نأمل أن يكون الانفتاح الذي تسير في دربه بلادنا فاتحة لدرب من دروب التواصل الناجح ، فإننا نتطلع لأن يكون تواصلا فعليا وعمليا ، وأن يخرج سريعا من إطار الشكلية والصورية الذي لا زال يتعثر فيه ، وهو لن يخرج منه من دون توافر شرط المسؤولية الذي ما زلنا نفتقده كثيرا ، ونحتاج لجرعات كبيرة منه قبل أن نضع أقدامنا على أول الدرب .
حول النظرية التواصلية ، ومناحي تطبيقها على مستوى الفرد والجماعة والأمة ، كان لي أن أطلع على كتاب أعده الباحث حسن مصدق ، عن النظرية ومدارسها وروادها ، بعنوان : “النظرية النقدية التواصلية” ، وقد أحببت أن أشارككم في بعض خطوطه العريضة ، لإيماني بأهمية التواصل ، كون فقده أكبر مسببات تدهور هذه الأمة ، ونجاحه الدواء الأمثل لكل أدوائها ، ويكفينا في هذا الخصوص ، تراثنا الغني حول الشورى ، التي هي تجسيد لعملية تواصل منضبطة قامت عليها أول دولة للإسلام .

ربما يعجبك أيضا