قراءة المستقبل : بين العلم والدجل

تكاثرت البرامج التي تتخصص في قراءة المستقبل على الفضائيات العربية ، وليس أعجب من تكاثرها سوى ازدحام المتعاملين والمتفاعلين معها من الجمهور العربي ، فليس عليك سوى أن تنطق باسم والدتك أو زوجتك لتعرف ما يحيط بك من مشاكل وينتظرك من أحداث ، بل لعلك تسمع ما يدور خفية عنك حتى في ذهنك من أفكار . هذا ما يحدث على الفضائيات العربية ، التي تتسابق في برامج التنبؤ بالمستقبل على اختلاف مسمياتها ، ومناهجها ، من التنجيم إلى السحر إلى تفسير الرؤى والأحلام . وحسنا فعلت المملكة حين منعت الاتصال على تلك القنوات من داخلها ، لكن من يمنع النفس الإنسانية من ضعفها تجاه المجهول ؟
برامج تفسير الرؤى والأحلام مثال آخر على تعلق الناس بالغيب وتخليهم عن الواقعية في تناول شؤون حياتهم ،ولا يمكن إنكار أن الرؤيا حق ، وأنها جزء من النبوة كما ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم ، لكنها لا يجب أن تعزلنا عن الواقع ، وتخرجنا من مجال العقل والتدبر . و تلك البرامج كثيرا ما تسبب المشاكل عوضا عن أن تحلها ، فما أبأس أن يكتشف الإنسان في نفسه أمراضا قد لا تكون حقيقية ، ويعتقد بوجود مشاكل وهمية ، فيدفعه الوهم بها إلى تعطيل حياته الطبيعية ، وانحرافها عن مجراها . ولهذا قام التلفزيون المصري قبلا بإيقاف احد تلك البرامج يتعلق بموضوع الرؤى .
إنه شكل من أشكال الركون لقوة الخيال السلبية ، لكن للخيال قوته الايجابية ، كما أن له قوته السلبية ، فليست المخترعات والاكتشافات التي تنقل الإنسانية من عصر إلى عصر إلا نتاج خيال خصب بنّاء ، وفي مجال قراءة المستقبل ،وبدلا من الانجراف وراء هرطقات المنجمين ، نحن بحاجة إلى تأسيس اتجاه نحو علم المستقبليات ،والمستقبليات علم يختص بالتنبؤ بالمستقبل ، لكنه تنبؤ يقوم على بناء دقيق للتوقعات ، بما تعنيه مفردة البناء من تخطيط وإعداد ودراسة دقيقة للمواد والمساحة والإمكانات ، هو علم يقوم على القراءة الدقيقة لمعطيات الواقع والحاضر الراهن ، وتحليلها ، وتفسيرها ، ومن ثم التنبؤ بتطوراتها وما يترتب عليها من نتائج ، وفق قوانين الاحتمالات والممكنات . انه العلم الذي باستطاعته أن يوازن بين قدرة الإنسان على الفعل وعجزه عن توقع النتيجة ، تلك القدرة التي قد تسخر للتدمير عوضا عن البناء ، وباستطاعته استباق الكوارث وتفادي الحوادث ، فيما لو تم تطبيقه وفق المنهج الصحيح .
ما أحوجنا لتأسيس التوجه المنهجي العقلي في كل مجالات حياتنا ، فبذلك أرشدنا القرآن الكريم الذي تتردد في ثناياه الدعوة للتفكر والتدبر ، ولأمر ما أمر الحق سبحانه وتعالى مريم بهز جذع النخلة ، قبل أن يساقط عليها الرطب الجني ، وأمر داوود عليه السلام بصنع الدروع السوابغ ، وهو القادر سبحانه على نصر داوود ، وتيسير الرطب لمريم ، بكلمة منه سبحانه . نحن بحاجة لتربية أطفالنا على فن التفكير والتخطيط وبناء التوقعات ، وكيفية استخدام خيالهم باتجاه البناء والتعمير ، والاستعداد للمستقبل ، لنحصنهم من اللجوء لوسائل التنويم العقلي ، التي يضيق بدعاواها الفضاء ، وينذر تكاثرها بمستقبل غير واعد للذهنية العربية ، التي تئن أصلا من علل مختلفة ، فضلا عن ضعف التفكير المنطقي العقلاني .

ربما يعجبك أيضا