ثقافة المجتمع وسؤال التغيير


عكاظ 2007

ناقشت إحدى حلقات المسلسل الرمضاني طاش ماطاش قضية مهمة تتعلق بثقافة المجتمع القارة، وقبولها لعامل التطور والتغيير، وتمت معالجة موضوع الحلقة وهو تفاعل المجتمع مع وسائل التقنية الحديثة عبر أجيال عائلة واحدة، وهي معالجة طريفة استطاع المخرج عبرها استيعاب وتطويق الموقف وتركيز العدسة على الفكرة،ومن البرقية في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله إلى السيارات التي تطير كاستشراف مستقبلي لم يتغير نمط سلوك العائلة كتمثيل للمجتمع، فهي تنتقل من الرفض المطلق القائم على الانصياع للثقافة السائدة، غير القابلة للحوار، ثم الحوار المنطقي مع ولي الأمر، ومن ثم الانصياع للواقع وتقبل الأمر، ويتكرر الموقف كل مرة مع كل جيل. ورغم أن الحلقة عالجت واقعا ملموسا ومشاهدا، لكنها لم تتطرق لتحليل هذا الواقع، ومحاولة تفسير خلفياته، ولعلها تطرح هذا في ملعب الاختصاصيين من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيين، رغم قلة هذه الخبرات لدينا ونحن في أمس الحاجة لها.

يمكن تعريف ثقافة المجتمع بأنها أنماط السلوك والعادات والمعتقدات والآداب والفنون والتاريخ التي تسود المجتمع. وكل ما يتصل بها. وتشكل هذه الأنماط الثقافية طابعا خاصا للمجتمع يُميزه عن غيره, ويتعدى ذلك إلى تتدخل هذه الأنماط لتشكل فكر أفراد ذلك المجتمع وتحدد توجهاتهم. وهي البيئة وأسلوب الحياة التي صنعها الإنسان لنفسه وهي بذلك تنتقل عن طريق أفراد المجتمع من جيل إلى جيل مع بعض التطورات التي تتماشي مع أساسات ذلك المجتمع. ثقافة المجتمع تجبر أفراده على الانصياع لفكر ما , أو لعادة ما , لكن كيف تتشكل ثقافة المجتمع على مر الأيام والعصور؟ التراكم هو عنصر مهم لكنه ليس العامل الوحيد، هناك بالتأكيد عوامل أخرى تسهم في تشكيل هذا البناء الصلب، الذي يستعصي على التغيير والتأقلم إلا تحت أقوى الضغوط. هذا هو السؤال الذي ينبغي أن نتوقف عنده طويلا لنناقش خلفيات هذه المشكلة، ونتجنب سلبياتها، التي أفرزت العديد من مظاهر الفرقة والنزاع والتوتر والانشغال بشكليات الأمور عن جواهرها في مجتمعنا المليء بأزمات جوهرية تحتاج أن نلتفت لها بوقتنا وجهدنا وفكرنا كله.

تتشكل ثقافة المجتمع تحت تأثير عوامل خفية، وتنمو بسرعة ونحن لا نشعر وحين تتعملق ولا نقدر على مواجهتها, يصبح من يواجهها متمردا ومنبوذا وسيطلق عليه من الأحكام والتصنيفات ما يخرجه من دائرة القبول الاجتماعي. ولا يعني هذا أن ثقافة المجتمع هي أمر سلبي تجريدا وإطلاقا , لكن ثباتها وعدم تقبلها للجديد ومواءمتها له قد يجعلها آسنة ومنغلقة وبالتالي تصبح طوقا، يتعارض مع طبيعة الحياة البشرية المرنة القائمة على التغير والنمو والتحول.
لا يمكننا عند حديثنا عن تطوير ثقافة أي مجتمع أن نفصل ثقافته عن قيمه وثوابته. إن كل تنمية لا تنطلق من قيم المجتمع الذي تطرح فيه هي تنمية عقيمة. ومع تلاشي الحدود الثقافية في مجتمعات اليوم, تمكنت ثقافات قوية أن تتسلل إلى مجتمعات تحمل ثقافات أضعف, فكان أن اختلطت ثقافات المجتمعات المهيمنة على الأخرى المستقبلة, مشكلة بذلك ثقافات مجتمع جديدة لا تنتمي لأي من الثقافتين , كون رسوخ الثقافات المحلية العامل الأكبر لعدم طغيان الثقافات الأقوى. ما ينتج عنه إعادة لتشكيل عناصر الأفكار في الثقافة الوافدة لتتواءم مع تلك المحلية. وينبغي على أفراد المجتمع أن يتماشوا أيضاً مع التوجه العالمي في حدود هذه الأعراف السائدة والتأقلم مع التجديد الحاصل في المجتمعات الخارجية بهدف التطوير والتعايش البناء.
نحن بين طرفين متنازعين، فإما أن نظل في قوقعتنا حتى تنتزع منا خصوصيتنا بالكامل ونحن لا نشعر، تحت تأثير العولمة المدروسة التي اقتحمت كل بيت بل كل عقل، عبر أدوات الاتصال والتقنية التي لا تنقطع تحمل مكتسبات الثقافات الواردة، أو نتخلى طواعية عن كل قيمنا لصالح دعاة التبعية الجوفاء، والحل هو التوسط والاعتدال، الحل يكمن في الانفتاح على العالم ونحن نقف على أرضنا الصلبة،على ألا تقف الثقافة المجتمعية الجامدة عائقا في وجه هذا الانفتاح المتعقل، ولن يكون ذلك إلا بدراسة متأنية من قبل المختصين بالأنثربولوجيا، تفرق بين ما هو قار وثابت وما هو قابل للتحويل وإعادة التشكيل من مفاهيمنا الاجتماعية، قدوتنا في ذلك ما قام به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، حين أبقى على مكارم الأخلاق في الجاهلية، وألغى ما يتعارض منها مع العقل والعدالة والحق. ساعتها سنعيد تدوير السؤال الآنف، كيف تتشكل الثقافة المجتمعية؟ لا لنحاربها كقيمة سلبية، بل لنسعى لنسهم نحن في تكوين هذه الثقافة وتشكيل مفاهيم تكون سلاحا لأجيال قادمة قادرة على مواجهة الفوضى الفكرية التي تحيط بهم من كل جانب.

ربما يعجبك أيضا