ما وراء الشكل: ما وراء السرد

قراءة لمفهوم التجريب في الرواية السعودية

يعد التسارع في التحولات الثقافية في المملكة العربية السعودية جزءا من تحولات المجتمع الكبير، وهي تحولات تتمحور غالبا حول الانفتاح، سواء كان انفتاحا على الذات، بمكاشفات ونبش في مخزونها ومكبوتاتها، أو على الآخر، برغبة نهمة في الاطلاع على منجزه وعلى أبواب جديدة غير مألوفة. ولا تشذ الرواية عن ذلك الكل، بل إنها تمتص هذا التحرك على اختلاف ألوانه، بما يتيحه نسيجها المعقد والمفتوح على مختلف سياقات الحياة البشرية. وقد أصبحت الرواية السعودية بهذا التحرك الصاروخي ظاهرة عالمية، فاستقلت مواقعها على رفوف دور النشر العالمية، وحظيت بعضها بترجمات لعدة لغات، وهو تحول كمي كبير في سنوات محدودة، لكنه لا يعد مؤشرا بالضرورة لتطور كيفي، ولذلك نجد الروائي السعودي يسعى بجهد للتميز والتفرد، عبر التجريب واللعب على أوتار التقنيات السردية الأحدث. وهو تجريب محكوم لدى الروائي السعودي برافدين أساسين، الشكل والمحتوى. بين هذين القوسين يسعى الروائي للتميز، فيتعرف على مفهوم “ما وراء السرد”، ويوظفه بكثافة تدعو للتوقف والتأمل، حيث تسمح له هذه التقنية بإحداث نوع من التوازن بين سياقين ثقافيين متناقضين، أحدهما تمثله تقنيات الشكل التي يضطر لاقتباسها من التجارب الروائية الأجنبية، والآخر يمثله المحتوى الذي ينبغي أن يقوم على تجربة تنبع من صميم الثقافة المحلية. وإذا كانت الرواية التجريبية – وإن لم تنضج – تشكل تحولا في تاريخ الرواية السعودية وتقنياتها السردية، فإننا عبر استعراض عدد من الروايات سنتناول العلاقة بين “ما وراء السرد” كتقنية، وبين التجريب كتيار، ضمن محور تحولات الشكل في الرواية.

التجريب في الرواية المحلية:

ظلت الرواية المحلية حتى أمد قريب جدا منفصلة عن المجتمع وقضاياه، ولهذا الانفصال علاقة جدلية بالكبت وضخامة سلطة الرقيب، التي يمارسها المجتمع بوطأة شديدة على الكاتب، حيث يضطر الكاتب لملامسة الواقع من مسافة بعيدة، أو معالجة تجارب مستعارة من ثقافات أخرى، أو معالجة الواقع بأساليب مغرقة في المجاز والشعرية، مما جعل الرواية تكاد تكون غريبة أيضا عن شكلها الذي تنتمي إليه، فهي غالبا مغرقة في لغة شعرية أو إنشائية إما تتملق الرقيب أو تتحايل عليه، وهي لهذا كله ظلت محبوسة في قوالب جامدة تفتقد للحيوية، كونها تعتمد شكلا جاهزا وتجارب ميتة.  وحين تحقق للمجتمع قدر من الانفتاح وحرية التعبير، وانوجدت قنوات للرأي، اتسعت مساحة المتاح للقول من التجارب، فبدأت الرواية تتنفس بيئتها من أعماقها السحيقة، وتسير نحو النضج شكلا ومضمونا، وبدأت تخرج عن خطها التقليدي، وتدخل في مرحلة التجريب.

والتجريب مصطلح مأخوذ من العلوم التجريبية، حتى أنه علم عليها، وهو يأتي بمعنى الاختبار لمصداقية الفرضية العلمية. وقد دخل إلى العلوم الإنسانية بطرق عدة، وتحقق في الرواية على يد المدرسة الواقعية، التي قامت على أساس اختبار القدرة على تجسيم مشاكل الواقع بدقة، والتجريب بهذا المعنى يعني اختبار مصداقية محاكاة السرد الروائي الواقع.  لكن التجريب في السرد انحرف ليعني معنى مخالفا لما وضع له المصطلح في بيئته الأصلية، فأصبح يعني اختبار أوضاع ومناطق مختلفة غير مألوفة من الواقع، أو هو محاولة اكتشاف طرق جديدة مختلفة للنظر للواقع، عبر استخدام تقنيات شكلية وأسلوبية صادمة للقاريء، ويكون التجريب في المضمون عبر اختيار بيئات وأبطال وأحداث فانتازية. وبما أن التجريب قاعدته الاختلاف والتمرد، فليس هناك قاعدة تحدد تقنياته، لذلك فقد ارتاد الكتاب مختلف السبل، ومن تلك الطرق اختراق الحواجز بين السرد والأجناس القولية الأخرى، كالشعر والرسم والموسيقى والتاريخ مثلا، ومنها توظيف تقنية “ما وراء السرد”.

التجريب على مستوى البنية الكلية للرواية المحلية كان في اختيار تجارب جديدة على التقليد السردي، مثل محاولات رجاء عالم في توظيف الموروث الأسطوري، وفي تجربتها السريالية في “أربعة- صفر”، أما على مستوى المضمون فتعد جميع الموضوعات التي وظفتها موجة القصص الصادمة من جهة ما نوعا من التجريب، إذ يهدف المبدع حين يلجأ للتجريب لاجتذاب القاريء عبر طرح أسئلة جديدة ومختلفة عما يألفه، والتجريب بهذا المعنى جزء من معنى العملية الإبداعية، إذا كان الإبداع بمعنى الاختراع والابتكار.

“ما وراء السرد”: السرد وأزمة المثقف:

تناول فيصل دراج في كتابيه عن السرد تطور الرواية وكونها شكل متطور عن الملحمة، وقارن بين بطل الملحمة في الزمن السعيد الحالم و بطل الرواية الإشكالي، في الزمن الحديث المركب، وهذا البطل الإشكالي يتأكد حضوره في الرواية الأحدث مع زيادة تعقد التركيبة الاجتماعية المدنية، وهذا ما يمكن قوله عن الرواية السعودية، التي تندمج بشكل أسرع في المجتمع العالمي وأزماته التي وحدتها آليات التقنية ومحركات السياسة والاقتصاد. فلم تعد حكايات الحب الرومانسي والبطولة والنهايات السعيدة ملائمة لهذا الزمن، بل أصبح المثقف الذي يقود أزمة الانفتاح ويعاني آثارها هو محور الرواية، وغالبا ما يختار الروائيون هؤلاء الأبطال من وحي تجاربهم، ومن هنا التقى التجريب بآليات “ما وراء السرد”.

ما وراء السرد، مراوغة الرقيب:

يظل التجريب في الرواية المحلية مسخرا غالبا لمراوغة الرقيب الذي لا زال يفرض سلطته، بحيث يعوق الكاتب عن الوصول لجمهوره المحلي. واستبطان السردسردا آخر حل مثالي لإشكالية الانغلاق والخوف من السلطة المجتمعية، فكأن الكاتب يضاعف من المسافة بينه وبين مرويه المحظور بوضع أصوات أخرى تسرد، وتشوش رؤية الرقيب وتشغلها عن المحتوى. وهذا هو ما يحدث في “قلب من بنقلان” و”طنين”، حيث الحجم الكبير لحساسية المروي، وحساسية موقع الراوي الفعلي من المروي.

المصطلح:

نجد هذه المعالجة السردية لأزمات الإبداع وتفاصيل اللحظة الإبداعية تحت عناوين متعددة، منها: “ما وراء الرواية”، “ما وراء القص”، “ما وراء السرد”، وإذا كنا سنستبعد مصطلح”ما وراء الرواية” لأنه يحصر هذا الشكل في الرواية، فإن المصطلحين الآخرين يمكن استخدام أي منهما لتناول التقنية من منظور هذه الورقة، فقد يتم تناول أزمة الكتابة الإبداعية في قصة قصيرة، أو حتى في حكاية، أو قصيدة، ثم إن الكتابة الإبداعية قد تكون رواية أو قصة قصيرة أو حكاية أو قصيدة.

ما وراء السرد؟

ويمكن تعريف تقنية “ما وراء السرد” بكونها ارتداد السرد على ذاته، فهي بصفة عامة “روايات وقصص تلفت الانتباه إلى وضعها الخيالي وإلى وقائع تأليفها” (لودج، الفن الروائي،ص 232). ” من خلال انتهاك بنية السرد بمخاطبة القاريء مباشرة، وتوجيهه إلى احتمالات تأويلية معينة، تتجاوز مستوى الدلالة في النص، إلى مستوى الفعل.

“عبر المساءلة الصريحة عن كيفية نقل الفرضيات والتقاليد السردية إضافة إلى مخاطبة القاريء مباشرة دونما حاجة للجوء إلي أسلوب المؤلف المختبيء أو المختفي”. (إيناس البدران،” نقد نظرية السرد / الحداثة ومابعدها في العمل الروائي “، الحوار المتمدن – العدد: 1678 – 2006 / 9 / 19 ). وهكذا يتقاطع أسلوب “ما وراء السرد” مع أسلوب “القاريء النموذجي”، فقد لا يناقش الروائي أزمة إبداع، لكنه يدخل مستوى سرديا آخر في روايته يتداخل مع إطار سرد الرواية، وينتج بتداخله أثرا تأويليا غنيا. ويمكن أن نضيف ما يسمى بالما وراء السرد التاريخي، وتمثل رواية “ليون الأفريقي” لأمين معلوف توظيفا جيدا لهذا النوع، فبطلها يسرد سيرته في مخطوط يحمله في الرحلات التي تدفعه إليها ظروف حياه المعقدة. وقد ارتبطت هذه التقنية بالتجريب، فمع كونها “ليست اختراعا جديدا لكنها تمثل خوف الكتاب المعاصرين من أسر النماذج القديمة والتقليد”، (لودج)، وهذا النوع من التقنية أصبح ذا انتشار كبير في الرواية العربية عموما، لكنه ملاحظ بكثرة واضحة في الرواية السعودية.

ما وراء السرد، ميثاق القراءة:

في الورقة التي قدمها الناقد محمد العباس في ملتقى الرواية وتحولات المجتمع بنادي الباحة الأدبي، وكانت بعنوان “تأوين القاريء في الرواية” تناول الرواية من منظور القاريء النموذجي، وكانت مادة الورقة مكونة من عدد من الروايات التي توظف تقنية ما وراء السرد، حيث يعد اختيار الروائي موضوع الكتابة وأزماتها متنا لروايته وفعلا لها، تقنية تتطلب منه إدخال القاريء في لعبة الكتابة، وإحضاره لمتن النص بوصفه طرفا سرديا يمثل ما يسمى “الشخص الثالث”. ويعد هذا نوعا من الوعي بسلطة القاريء، ومحاولة إخضاعها لصالح نصه، عبر تحفيزه بطرق مختلفة لإنتاج المعنى، “كل هذه الاستدعاءات للوعي الناقد ليست مصادفات، إنما تندرج في مجملها تحت عنوان عريض يعني الوعي بسلطة القارئ، والانتباه إلى أهمية إشباع خبراته الحياتية والثقافية الآخذة في التراكم كناتج لعملية التفاعل بين النظرية السردية ونظريات الاستقبال، بدليل ذلك التنويع على تمثلات حضوره، والإصرار على التجادل معه، الأمر الذي يؤدي بشكل تلقائي إلى محاولة إنتاج رواية مركبة أو سردية طليعية لتجاوز سكونية السرد التقليدي،”، وفي هذا الاقتباس يعبر العباس أيضا عن المظهر التجريبي في تقنية ما وراء السرد، وإن يكن من منظور القراءة. حيث يعد إدخال القاريء طرفا في السرد نوعا من مساءلة القيمة الجمالية للنص، من خلال القفز بمستوى القراءة من مستوى الدلالة الأولية للنص، إلى دلالاته الجمالية، القائمة في تحولات العلاقة بين التخييلي والواقعي، ومن تحويل القراءة الى فعل بدلا من ان تكون مجرد ردة فعل. وفي هذه الورقة سنتشارك الأستاذ العباس جزءا من مادة ورقته، على أن ذلك سيكون من زاوية مختلفة، نأمل أن تثري تقاطع المجالين، فانشغالنا هنا بالفضاء النصي الذي توسلت به تلك الروايات لتأوين القارئ، وهو انشغال شكلي، يتمثل في إدماج مستويين سرديين أو أكثر داخل النص، تحت مسمى”ما وراء السرد”، كيف يمكن أن يكون لصالح التجريب الجمالي الناجح، أو أن يكون مجرد تغطية لضعف التجربة، وكيف ينجح في تفجير فعل قراءة مفتوح، عبر تشكيل تواصل جمالي ممتد مع القاريء، أو يكون مجرد توظيف جاف للتقنية على حساب جوهر السرد.

لعبة المواقع: تعدد المنظورات:

يبقى المفهوم الأساس الذي يفرض نفسه بقوة على جماليات النوع السردي هو تعدد المنظورات ، وهو مفهوم يرتبط بالحوارية، المصطلح الذي قدمه “باختين” ليكون حدا بين النوع السردي وغيره من أجناس القول، ليس بمعنى الحد التعريفي “الجامع المانع”، (فالحوارية والسرد كمصطلحين تاريخيين ليسا شيئا واحدا، كما فهم أحد المتداخلين من قراءتي السريعة لهذه الورقة) بل بمعنى التقاطع في منطقة الثراء التأويلي الذي لا يمكن لأي فعل جمالي أن يتم بدونه، الثراء الذي يميز النصوص التي تبقى من تلك التي تزول سريعا من ذاكرة القراء، النصوص التي تظل تثير الأسئلة وتترك أقواسا مفتوحة حتى بعد انقضاء زمنها وظروف كتابتها. هكذا شرح باختين مفهومه للحوارية عبر روايات  دوستويفسكي (انظر: تعدد الأصوات والصوت السردي في رواية الرجع البعيد لفؤاد التكرلي، نقد: فابيو كاياني-جامعة القديس اندروس، ترجمة سهيل نجم، موقع الاتحاد العام للكناب والأدباء في العراق).

ولعلي أضيف ما يغني ذلك التقاطع من خلال التطور الذي مر بالمصطلحين، فقد انتهى الفيلسوف الفرنسي ريكور من رحلته الطويلة مع الفلسفة إلى اختصار الوجود في سؤال السرد، بوصفه السؤال الذي يمكن وضعه بإزاء كل نشاط بشري لا سيما الفكري منها، وقد ناقش ذلك من خلال نماذج التاريخ والأسطورة والفلسفة وحتى الفيزياء، والسرد بحسب ريكور هو اتخاذ موقع ومسافة للرؤية، وقابلية الموقع للتحول والتعدد، وهذا ما لاحظه في تناوله لنماذج من التاريخ والفلسفة والفيزياء والأسطورة، فقد أثبت وجود المسافة السردية حتى في أشد النصوص تجريدا، وهذا ما يجعلها قابلة لتعدد المنظورات، وغنية بالعنصر الحواري. وتتنوع التقنيات التي بواسطتها يتم إدخال تعدد المنظورات في السرد، فقد يتم ذلك بواسطة تعدد الأصوات السردية، وقد يتم بواسطة التقطيع الزمني والمكاني للسرد، أو باختيار أنماط معينة من الشخصيات القادرة على التحول وتغيير مواقعها، وقد يظهر ضمن أصغر وحدات النص، داخل جملة أو حتى كلمة. وكل هذه الأنماط تتيحها تقنية “ما وراء السرد” بوسائل متعددة، فتضمين سرد ما سردا يتيح التنقل بين مستويين سرديين وأكثر، وهو شكل نشط من تعدد المنظورات، يضاعف من فاعلية تعدد الأصوات السردية إذا ما امتزجا في نص ما، كما يستقل وحده بتلك الفاعلية في نصوص أخرى. وهذا ما يمكن أن تحققه الرواية بتوظيف تقنية ما وراء السرد توظيفا ناجحا، كما في عدد من روايات كونديرا وأبرزها “المحاورة” و “الهوية”، و “الخلود”.

انفتاح النص:

وإذا كان انفتاح النص معيارا لنجاحه بحسب “ايكو”، وبحسب فعل القراءة لدى “ايزر”، وتفكيكية “ديريدا”، فان تقنية ما وراء السرد تدعم هذه الآلية حين تجعل من السرد سلسلة من عمليات التركيب والتفكيك، فتح نص وإغلاقه، تؤول في النهاية إلى فتح النص، ومثالنا على ذلك نهاية رواية “الهوية” لكونديرا، التي تتألف من مستويين سرديين، وهما: الرواية الإطار، والحلم الذي تسرده البطلة. وتسرد الرواية الإطار الحدث من منظور بطليها، اللذين يروي السارد الخارجي تطورات معقدة تطرأ على علاقتهما الخارجية، لكن تلك التطورات تحدث لأسباب تتعلق بفعل سردي يمارسه البطلان داخل الرواية، وهكذا يصبح السرد ليس فاعلا للرواية فحسب بل مفعولا لها. تبدأ الرواية بقرار البطلين أن يلتقيا في فندق على الشاطيء، ثم تحدث معوقات للقاء، فيبدأ البطلان كل منهما يسرد احتمالات لسبب تخلف الطرف الآخر عن موعده، ويعيد تركيب العلاقة من جديد وفق مونولوج داخلي محكم التسلسل، وفي نهاية الرواية يكتشف القاريء أن البطلة كانت تحلم، غير أن الكاتب لا يوضح تماما حدود الحلم، بدايته ونهايته، مما يضطر القاريء للعودة من جديد في محاولة لاكتشاف نقاط التقاء وانفصال الوعي واللاوعي في أحداث الرواية. ورغم صغر فضاء الرواية والبساطة اللغوية التي تقدم نفسها بها، فإن التعقيد الجمالي يأتي من تشابكات فعل السرد ومستوياته، وتحولاته من إطار إلى محتوى، فهناك سرد السارد الخارجي، ثم سرد البطلين لأحداث الرواية في المستوى الواعي، ثم سرد البطلة في مستوى الحلم، وجميعها تتداخل بطريقة ديناميكية توحي بالبساطة، لكنها تتطلب تأملا كافيا لتفكيك فواصلها، وتترك النهاية مفتوحة قابلة لكل الاحتمالات.

“المكتوب مرة أخرى” لأحمد الدويحي، رواية الرواية:

“ازدادت حالتي النفسية سوءا، ففقدي زرقاء اليمامة أشعرني بفقد شيء مهم، كما لم أشعر بفقد من سبقنها، أجزم أني لم أر وجهها، … وصار لا بد من تعويضها في هذه الحال بأفضل منها، دون أن أتنازل عن شيء من صفات أدرجتها في مخيلتي لبطلة النص المنتظرة” ص 128، في هذا الاقتباس يدرج الروائي أحمد الدويحي مبدع “المكتوب مرة أخرى” إحدى أهم لحظات السرد الروائي، وهي اختيار البطل، ويناقش وجوها من نظرية الإبداع عبر تجربته حين يسرد كيفيات تشكل الشخصية في ذهن الكاتب، والحالات الشعورية والذهنية التي تصاحب هذا التشكل، والتحولات التي تمر بها الشخصية في طريقها للنضج. هذا مثال نقتبسه لندلل كيف تمثل رواية “المكتوب مرة أخرى” رواية الرواية بامتياز في مشهدنا السردي المحلي. فهي لا تكتفي بكون البطل كاتبا يلمس معاناة الكتابة من بعيد، بل إن بطلها هو روائي، ومرويه هو رواية وشخصياتها مبدعون يحكون قصة الإبداع، وهو يعالج تفاصيل كتابة الرواية من كل جوانبها وفي أدق تفاصيلها، ويتابعها لحظة بلحظة، ويناقش فلسفتها، وهو لا يغفل تفاصيلها التقنية، فنظرية الرواية تتنفس كثيرا في هذا العمل، حتى تستغرقه كله، بحيث يشكل فعل السرد قصته وقضيته، حكايته وحبكته ومنظوراته. وبسبب من هذا  يتطابق زمن الراوي وزمن المروي وزمن الرواية، الفعل والفاعل والمفعول هم الشيء نفسه، بحيث لا يمكن تمييز الراوي من روايته ومرويّه، ومن هنا تأتي صعوبة قراءة هكذا نص، والدهشة الجمالية التي يفجرها في قارئه.

وهنا يصح أن ألتفت لمنحى قد شغل بعض قراء هذه الرواية، فكونها محتشدة بالأسماء والوقائع الحقيقية قد جعل منها لدى بعضهم مجرد سيرة ذاتية، متهمة بالوقوع في فخ الفراغ والتهافت، خاصة أنها في نظرهم تخلو من التلاعب بالزمن والتخييل في الأحداث والشخصيات. وهؤلاء لم يتوقفوا عند المنظور التجريبي للرواية، الذي تنشغل فيه لا بشيء خارجها، لا بالحدث ولا بالحبكة، ولا الشخصيات، ولا الزمن، ولكن بذاتها، فهي ترتد إلى ذاتها وتستغرق في تأملها، وفق تتابع خطي،حيث يحاكي الكاتب فعل الكتابة لحظة بلحظة، فيضطر لمجاراة الزمن في تدفقه الطبيعي، وعدم خلخلته، منشغلا حرفيا عن الرواية(الإطار، التي تحمل عنوانا محددا “المكتوب مرة أخرى”)، والتي كان ينتظر منها القراء حبكة تقليدية بما تتضمنه من لعب على وتر الحدث والشخصيات، وتكسير في الزمن، بما وراءها ، وهي رواية أخرى لا تحمل عنوانا داخل النص، تركها الكاتب لتمثل كل الروايات، بما فيها الرواية الإطار، وتحكي قصة الرواية.

ويمثل استبدال الثيمة بالحدث أبرز سمات الرواية التجريبية، حيث “لم يعد الفعل وحده محركا للزمن الروائي، عندما وجد الإنسان نفسه أمام متغيرات هائلة أدهشته وأربكته، ذلك أن ممارسة العمل الاعتيادي اليومي لا تعيد إليه الانسجام من العالم الخارجي، شأنه في ذلك شأن الروائيين أنفسهم الذين انفرط لديهم الحس بالانسجام وأخذوا يبحثون مجددا عن معني للوجود، كما بحثوا عن أشكال تقدر علي احتواء حس شخصي بالمعتقد يغري القاريء عند القراءة، عبر اعتماد وسائل الشعر الغنائي وبناء نمط من الحوادث المشحونة بالرمزية وأحلام اليقظة موضوعة في نثر من تلميحات وضغوط إيقاعية تعيد للقاريء المجرب الحس بالأهمية التي تنبعث منها رؤية المؤلف” (إيناس بدران). وغياب الفعل يعني غياب الحبكة التقليدية، التي تتشكل من لحظات الحدث الثلاث من بداية لتكون العقدة إلى انحلالها في النهاية. وروايات ما وراء السرد تمثل هذا المفهوم كثيرا، حيث تروي حالات الكتابة، وهي حالات يعيش فيها المبدع تشتتا وتوهانا، ومن الصعب أن تشكل مثل هذه الحالات حبكات متماسكة.  وقد يرتبط ذلك لدى بعض الروائيين بضعف التجربة التي يقوم عليها العمل، ومثل هؤلاء الكتاب لا يكون غياب الحبكة لديهم مبرَّرا فنيا، بل هو مجرد نقص في أدوات السرد.

وثلاثية “المكتوب مرة أخرى” لأحمد الدويحي هي مثال لغياب الحبكة المبرّر فنيا لصالح الثيمة، داخل عمل يوظف تقنية ما وراء السرد، فليس هناك جسم متماسك لحدث يتصاعد وينمو بانتظام وسببية واضحة، بل إن المروي تمثله الحالة، حالة البطل وهو يعيش  تشتت الكتابة، ولا يمكن أن يكون التشتت والتمزق حدثا متماسكا. وليس غريبا أن نجد هذا المعنى في وعي الكاتب الذي يسرد قصة الرواية ويجعلها تتنفس في عمله، حين يعبر عن “الثيمة” بالحالة، ويقول: “الحالة تبقى هي الجذر المترسخ في هذه الحياة” ص264 ، وفي موضع آخر يقول: ” صحيح القول إن الوجوه والأقوال والحالات تأتي إفرازا جماليا لكينونة واحدة، نلمس في تفاصيلها السبل المؤدية إلى نهاية مبتغاة، ….. ويصح القول إن التفاصيل تشير إلى حساسية ذاتية معاشة فيها الصدق العفوية والصبر والحزن… تختصر لغة الكلام في جذر واحد(المكتوب مرة أخرى)” ص228، وهنا تأتي حالات المعاناة التي يعانيها البطل في موضع الثيمة التي تأخذ موقع الحبكة في الرواية.

في “المكتوب مرة أخرى” هناك نوع من الفلسفة لتقنية “ما وراء السرد”، فهو يجعل من فعل السرد فعلا وجوديا، إذ يتم سرد واقع البطل وحياته من خلال فعل السرد نفسه، حيث البطل هو كما قلنا كاتب يعيش توتر فعل الكتابة، كتابة رواية. وبالتبادل تتكشف تفاصيل فعل السرد من خلال حياة البطل نفسه. الحياة كما يرى الكاتب نص يكتب، فحتى شخصيات الرواية البسيطة مثل الوالد والوالدة والعمة يقدمون في حالة سرد، يمارسون حالات وجودية مفقودة بواسطة أفعال سردية، وكأن الكاتب ينطق الحياة في كل شيء بمساعدة الأشياء والأشخاص على سرد ذواتها. يقرر ريكور هذا في “الهوية السردية”، حيث حياة البشر بحسب “الهوية السردية ” عند ريكور سرد ينمو ويتشكل. ويبدو وعي الكاتب بالهوية السردية عند ريكور واضحا منذ اقتباسه عبارته في مقدمة الرواية، الحياة إذن هي نص ينجح بقدر ما يكتب من مرات، و النص هو حياة تنجح بقدر ما تتخلق من جديد كل مرة. ومن هذا الفعل الوجودي تكتسب الرواية الثيمة التي تأتي بديلا عن الحدث، وتعوض غياب الحبكة التقليدية، وقد تناول الناقد محمد العباس في قراءته للرواية مجموعة الدلالات التي تتضافر لتشكل ثيمة العمل ونواته المنشطرة في وحداته السردية، وهي الضياع الذي يتغلغل في روح المبدع، ويشكل عالمه النازف باليأس والحيرة والتيه، الذي تمثله شخصيات العمل. وهي كلها تنوعات من الشخصية المبدعة، بطل الرواية الذي يسرد معاناة كتابة روايته، وصديقه الشاعر الذي يعاني أزمته الخاصة في كتابة الشعر، وأصدقاء البطل من مجموعة المبدعين بمن فيهم فنانون من عالم الغناء والموسيقى، جميعهم تجمعهم مهنة “الكنس” التي جاءت في الرواية –بتعريف الكاتب- رمزا لعملية الإبداع، لا سيما السرد. ولكل منهم معاناته، وشيء منها أورده الكاتب موثقا في ثنايا الرواية تفريعات لمعاناته هو، وامتدادا منها وإليها.  كما في ص92

في “المكتوب مرة أخرى” يأتي دخول الرواية النواة -التي تمثلها الرواية التي يعاني في كتابتها البطل- في الرواية الإطار بشكل خطي، فهي تشكل القصة في الرواية، وتحتل فضاءها كاملا منذ العنوان. والرواية الإطار تبدأ من لحظة حديث البطل عن نفسه بضمير المتكلم، وتمهيده لبداية الحدث، وانطلاق زمن السرد من لحظة اختلال التوازن في حياة البطل، حين بدأ يشعر بالاختناق وتداعي الذكريات التي تلح عليه ليتخلص منها بسردها في رواية. وهذا الشكل لرواية الرواية يختلف عن نوع آخر سيأتي بعد قليل، وتمثله رواية”حب في السعودية” لإبراهيم بادي.

“حب في السعودية” لإبراهيم بادي: فراغ التقنية:

 رواية إبراهيم بادي “حب في السعودية” هي محاولة لممارسة شكل مختلف من التجريب، عبر تقنية “ما وراء السرد”. وهي رواية تتكون من ثلاثة مستويات سردية، الرواية الإطار التي تقدم لنا السارد يحكي عن تجربته في كتابة رواية، بطلها بدوره يكتب رواية سيرته الذاتية، لكن بادي لا يقدم تجربته من منظور خطي كما فعل الدويحي، بل هو يلعب على وتر موقع الرؤية، فيستغل تقنية “ما وراء السرد” بأن يجعلها وسيلة لتقطيع وحدات السرد وتنويع زوايا الرؤية، حين يحكي عن ظروف مختلفة للكتابة، ويقتسم فضاءها مع البطل الذي يسرد بضمير المتكلم، والذي بدوره يكتب سيرته. واختيار بطل الرواية روائيا يمارس كتابة الرواية هذه المرة يدخل في صميم بنية الرواية، فيكون هو الوسيلة لتقطيع زمنها ومكانها وتوزيع وحداتها. لكن هذا التوظيف لم يخدم العمق الجمالي للسرد في جانبه الإبداعي والتأويلي، إذ لا تقدم التجربة المسرودة أي مبرر لسردها، سوى الرغبة في الانتشار السريع بمصادمة قوية لمحرمات اجتماعية، مما يسلب السرد قيمته الجمالية، وهناك انفصال وفجوة كبيرين بين السرد والمسرود،وهكذا تجيء تقنية ما وراء السرد لتغطية هذا الضعف السردي، لكن عكس ذلك هو ما حدث، فالانفصال الكبير بين السرد والمسرود أخذ يتضح أكثر مع تقنية ما وراء السرد، التي لم تلامس هنا إلا مظاهر سطحية من معاناة الكتابة، فهي مقحمة لتمنح العمق للتجربة المسرودة بلا جدوى. “حب في السعودية” هي رواية مسرودة بواسطة مؤلفين بحسب محمد العباس، “أحدهما يقدم أجواء العمل الداخلية فيما يشبه القناع، والثاني يؤدي دور التغطية له كمؤلف ليحتويه بشكل كلي، ويمرر من خلاله ” الكلام ” المخالف، فهو كروائي تجريبي جديد لا يكف عن مجادلة القارئ لإقناعه بفتح سردي مغاير، من خلال مؤلف مستدعى من المخيلة، ومشيد داخل مختبر معرفي جمالي، ليشد القارئ إلى روايته ويضمن اندفاعه وراء كلماته”.

 (ما وراء السرد التاريخي):

التاريخ هو أقدم الأشكال السردية وأرسخها تقاليد، وهو المادة الخام والنموذج الذي اعتمدت عليه القصة منذ منشئها لتنتج بنيتها الخاصة، والعلاقة بين التاريخ والسرد تتمفصل أولا عند نقطة الواقعية، فالتاريخ يحكي الواقع بالزمن والمكان، والقصة تجعل من الواقع مادة لمتخيلها. لكن واقعية التاريخ هي النقطة التي كانت تعتمد عليها القصة لجذب قارئها، فالحكايات الشفهية القديمة كانت تقدم على أنها تاريخ حقيقي، وتعتمد على علاقتها بالتاريخ في جذب المستمعين، وحتى السرد التخييلي الآن كثيرا ما ينتهي بتذييل توثيقي لأبطاله يربطهم بوقائع تجعل منهم أشخاصا حقيقيين، ومن القصة وقائع حقيقية، فيذيل الفيلم والقصة بعد نهايته بملحق يوثق فيه وقائع حياة الشخصيات بعد زمن القصة. وهناك حيلة أخرى يلجأ إليها الروائيون حين يذيلون السرد أو يفتتحونه بنفي علاقته بالواقع، مما يعلق القاريء أكثر بالمقارنة بين الوقائع المسرودة وسياقاتها التاريخية المحتملة. من هذا المنطلق الفني نشأت الروايات التسجيلية التي تعتمد المادة التاريخية وتتلاعب فقط بتوزيع فضاءات السرد واختيار منظوراته. لكننا مع “ما وراء السرد التاريخي” نتعامل مع نوع من السرد لا يتوخى الجانب الفني فحسب من تقاطعه مع التاريخ، بل هو يتقصد إلى جانب ذلك مساءلة التاريخ ووضعه على محك المصداقية، وفتح مدونته لممكنات التأويل التي لا يمكن فتحها إلا بذرائع فنية. روايات الراحل عبد الرحمن منيف تقع معظمها في هذه المنطقة، وهي تمارس هذه التقنية باحتراف، فملحمة “مدن الملح” تعد إسقاطا متميزا للمتخيل على الواقع، والعكس صحيح، حيث ناقشت التاريخ الحديث لمنطقة الخليج بتفاصيله من خلال زمن ومكان متخيلين.

في الما وراء السرد التاريخي نحن أمام مستويات سردية متداخلة، تعنى بالسرد التاريخي وتساءل الجانب الواقعي فيه، لا التخييلي، لكنها تحقق من خلال التقنية نتائج جمالية كبيرة. “يعبر الما وراء السرد التاريخي عن مفارقته لتقاليد القص الواقعي من خلال استخدام الرواة المتعددين و ضغط الأحداث التاريخية و خرق الترتيب الزمني (Chronology ) للأحداث”، وإذا ما تم تكثيف تلك الوسائل الفنية فإن الما وراء السرد التاريخي هو تقنية تجريبية متميزة. هذه التقنية تنشط استجابة القاريء الجمالية، لكنها تخدم بشكل أخص السرد التاريخي، حيث يستخدم الكاتب ثغرات السرد المنطقية ليفسر بها ثغرات التاريخ، والعكس كذلك، فمن خلال إحضار القاريء أو المروي له إلى متن السرد ظاهر أو ضمنيا، يشرك القاريء في أزمته في اختبار الحقائق التاريخية.

شرق الوادي، الحقيقة التاريخية في مرآة الأسطورة :

وتعد روايات تركي الحمد مثالا على هذا النوع، على أن أسلوبه في مزج التاريخي بالتخييلي بلغ قمته في “شرق الوادي” وهي رواية تتداخل فيها الأسطورة بالسرد، بحيث تثريها بشكل سردي مختلف يزيد من غنى بنيتها، وهي تتضمن مستويين سرديين، يمثل أحدهما الكتاب الذي كتبه البطل”جابر السدرة”، ويمثل الآخر الرواية الإطار التي تظهر جابر الحفيد يقرأ الكتاب ويحاول فك رموزه. وعملية القراءة تلك هي جزء من جماليات ما وراء السرد، فهي تطرح إشكالية التأويل في متن السرد، وتشرك القاريء في لعبة الكتابة، وإن بطريقة غير ظاهرة ومعلنة. في شرق الوادي يتم طرح الأسطورة ممتزجة بالتاريخ كشكل سردي يحتوي مشاكل سرد الحقيقة التاريخية، وجانبا من مسائل التأويل، فعبر تعلق البطل بشخصية سميح القاسم، التي تختفي فجأة، تحولت الشخصية إلى أسطورة، ويقضي جابر مراحل طويلة في محاولة تأويل تلك الأسطورة التي تتبدى في أماكن وأزمنة مختلفة، من أجل العثور على سميح، وفي تلك الرحلة الطويلة يواجه جابر أنواعا من الحقيقة التاريخية، ويمارس وسائل مختلفة لتأويلها. وتتمفصل حياة جابر على مراحل رحلته، وهي حياة تعرض تاريخ المنطقة الحديث، وتطوراته، وفق فلسفة العلاقة بالآخر، فعلى محك العلاقة بالآخر تتشكل الحقيقة التاريخية، ويتحرك مؤشر التاريخ. رواية شرق الوادي، تناقش التاريخ كفلسفة وسيرورة، عبر الوثيقة التاريخية التي تركها الجد جابر السدرة لحفيده جابر.

والتداخل بين مستويات السرد الثلاثة: الأسطورة والنص والرواية الإطار يمثل توظيفا جماليا جيدا لماوراء السرد التاريخي، حيث تساعد هذه التقنية في إخفاء النبرة الإنشائية والتوجيه الذي تتميز به السرود التاريخية من قبل السارد، ففي هذا النص ينطلق القاريء بتلقائية في قراءة الوثيقة بمعية السارد، ويشاركه في تأويلها، علما بأن صوت السارد الأساس (الحفيد) يندرج ضمن صوت السارد داخل الوثيقة (الجد) فيتضاعف الظل التأويلي للمسرود، والذي يتألف بدوره من نوعين: التاريخ والأسطورة، وهما نوعان سرديان يضفيان بتنوع تكوينهما وتداخلهما عمقا جماليا للنص. مستويات وأنواع ممتزجة من السرود تتطلب من القاريء جهدا جماليا في تتبع مفاصل النص وتحولاته بين التخييلي والواقعي، الفردي والجمعي.

روايات سيف الإسلام بن سعود:

قدم سيف الإسلام بن سعود ثلاث روايات، يمكن نسبتها جميعا إلى الرواية التسجيلية التاريخية، فهي جميعا تشتغل على محور فلسفة التاريخ، وظف تقنيات السرد في مساءلة التاريخ، وحاول في كل مرة أن يجدد تقنيات السرد المستخدمة، غير أننا لا يمكن أن نبريء رواياته من غلبة العنصر الخطابي الإنشائي، ولعل السبب في ذلك اهتمامه بالأحداث الدقيقة والوقائع، التي يصعب دمجها في قوالب فنية خالصة، فلم تستطع تقنية ما وراء السرد التي توسل بها كثيرا على تغطية هذا الجانب الفني الضعيف في رواياته الثلاث. على أننا هنا نشير إلى النموذج الرفيع الذي قدمه معلوف في روايته “ليون الافريقي”، حيث اختار قالبا ملائما جدا لسرد الوقائع الدقيقة لتاريخ نكبة الأندلس، وهو مخطوط الرحلات التاريخي التراثي، فبطله طفل اضطرته الظروف الصعبة لأن يكون رحالة، ولأن يدون أحداث حياته في رحلاته عاما بعام، موثقا كل عام باسم الحدث الأساس فيه، وقد اكتفى الكاتب بتقمص شخصية مؤرخ رحالة من ذلك العصر، فلا يمكن للقاريء تمييز صوت الكاتب من صوت السارد الممسرح، بل يجد نفسه يندمج كليا في موقف الشخصية وتحولاتها، ويعيش التاريخ المسرود بوقائعه من خلال تلك التحولات.

قلب من بنقلان: السيرة والتاريخ:

قلب من بنقلان هي كما تقدم نفسها رواية أصوات، أصوات تولّد الحكايات، أصوات تمارس الانشطار، وبواسطة لعبة الأصوات هاته يدخل موقع الراوي بقوة في لعبة السرد، ليعلن عن تماهيه مع كل الأدوار التي يتخذها.

تبدأ الرواية بإعلان عن رواية، بأركانها التقليدية، الراوي البطل، يتخذ موقعه في البداية كمرو له، أمام الراوية الثانية في الرواية : الوالدة. ومن ثم يتبادل معها الموقع، فيقوم برواية مقاطع من القصة. وضمن فعل السرد تنبثق أصوات رواة آخرين، صديقات رحلة الأسر التي عانتها الأم مثلا. كانت قصة الأم إطارا لقصة الملك سعود (رحمه الله تعالى)، في لحظة تاريخية تشتبك فيها سيرة ذات بسيرة وطن، بسيرة أمة. وبالتبادل كانت قصة الملك سعود إطارا لقصة الوالدة، سيرة الأنثى / الأمة /المستلبة. وقصص أخرى فرعية، كل قصة تولد في إطار قصة أخرى، بشكل يذكرنا بروايات التراث، كليلة ودمنة، ألف ليلة وليلة، لا سيما وأن الرواية مقسمة على ليال. وفي هذه اللعبة السردية، عبر تداخل الأصوات، تكمن حيلة سردية تتمثل في حركة زاوية الرؤية، كما لو كانت القصة مسرحا يتم تسليط العدسات عليه من عدد من الزوايا، لكن هذه الزوايا ليست مستقلة، الواحدة عن الأخرى، بل هي زوايا متداخلة، تنبثق الواحدة من الأخرى، وتغير أبعاد الصورة، لترويها بشكل مختلف، لدرجة التضاد، هكذا نجد الراوي يعيد سرد مقاطع من رواية الوالدة من وجهة نظر مختلفة، وفي هذا السياق أيضا تجيء تساؤلات الراوي التي تترك القاريء على مفترق طرق التأويل. 

في “قلب من بنقلان” نحن نشهد نصا يتوسل بتقنيات ما وراء السرد، وإن بدرجة مختلفة عنها في “المكتوب مرة أخرى” للدويحي. نشهد الكاتب الفعلي، يدخل قارئه في لعبة التاريخ ، يشركه معضلة البحث عن الحقيقة ، منذ اللحظة التي يقرر كتابة نص تاريخي، ومن ثم يصنف هذا النص رواية، ويناقش تفاصيل تشكل النص كرواية، مع تفاصيل الكتابة وأدق ظروفها. وهي بذلك رواية يحضر فيها المؤلف النموذجي، الذي يشحن سرده بتوجيهات القراءة، يشارك القاريء خططه السردية، ويوجهه لأماكن مفاتيحها. ليس فقط من خلال خطاب القاريء مباشرة، بل من خلال مشاركته مراحل الكتابة، وظروفها. والكاتب الفعلي المتماهي مع الراوي، يطلع القاريء منذ البداية على أن النص الأصلي هو وثيقة تاريخية، يتم تجميع أطرافها عبر سيرة ذاتية لفرد من صناع التاريخ، هو الملك سعود والد الراوي، وزوج الراوية. ومن ثم يشركنا الكاتب في قرار تحويل نصه لرواية، ولعل لهذا القرار ما يبرره، فالتباس التاريخ المحكي، من الحدة والشدة بحيث لا يستوعبه سوى النوع الروائي، بتقنية تعدد الأصوات، التي تستوعب جيدا اختلاف روايات التاريخ المحكي، وتصادم وجهات النظر في روايته، واشتباكاته.

طنين:

تتكون بنية النص في طنين من نوعين من السرد، يشكل السرد التاريخي إحداهما ، بينما يشكل السرد التخييلي النوع المقابل، غير أن مساحة التخييلي تتضاءل لحد أن تكون مجرد تمهيدات للسرد التاريخي. ويتقاسم السرد صوتان، أحدهما صوت الراوي الخارجي الذي يتولى السرد التخييلي، المؤطر بحدث فتح الرسائل من قبل الحارسين، والراوي الداخلي الممسرح وهو الشخصية الرئيسة/البطل، الذي يروي أحداثا تاريخية مستطردا من حدث إلى آخر. يتقاطع الصوتان لينتجا بنية السرد في هذا النص، جاءت الرواية في شكل رسائل من طرف واحد، ولمناقشة قضايا الرواية يلجأ السارد لتقمص دور المرسل إليه وطرح الأسئلة المتوقعة، ومن ثم الإجابة عليها. في مونولوج طويل، وهذا ما يضيف نوعا من الحوارية التي تعوض نقص الشخصيات، والأصوات السردية في الرواية. الرسائل إذن هي نوع سردي، وفتحها من قبل الحارسين وتوزيع وحدات النص على هذا الحدث يمثل وسيلة مختلفة يحاول الكاتب من خلالها إضفاء الجدة والاختلاف على عمله.

الكنز التركي:

لعلها الأنضج من بين الروايات الثلاث لسيف الاسلام، ففيها نحن أمام راويين، الراوي الخارجي الذي يبدو منفصلا عن الراوي الداخلي”مهند السعودي”، وهو يمارس كتابة روايته الثالثة كما يرد في الرواية. والرواية تنتقل بالتناوب بواسطة الصوتين بين زمنين متباعدين يمثلان التاريخ العربي الحديث عبر تاريخ الحجاز، وعبر رمز الكنز التركي الذي يمثل ثيمة الرواية، حيث تكمن قيمة هذا الكنز لدى من أودعه في قلب الحجاز من الأتراك المخلصين لإسلامية الخلافة العثمانية، لا في كونه ذهبا، بل في قدرته على إعادة بناء الخلافة من جديد في زمن قادم، وإنقاذها ممن سيطر عليها من العلمانيين، وسلموها لأعدائها، بينما لا يمثل لدى مجموعة الطامعين العرب سوى وسيلة إثراء، على حساب التاريخ والحلم المدفون في أمة مسلمة متحدة وقوية. وكأنما هذا الجشع المادي هو نفسه ذاك الذي دفع بكثير من القبائل العربية لمناصرة الانجليز في هدم حلم السلطان عبد الحميد الثاني في توحيد الأمة المسلمة ضد أعدائها، حين دمروا وسيلة هذا التوحد (خط القطار الحجازي).  ويمكن ملاحظة أن الرواية لم تنجح في إخفاء النغمة الواحدة المسيطرة على الصوتين، وهي نغمة تعلوها الخطابية والإنشائية، وتسلب الشخصيات حيويتها واستقلالها، إلا أنها تجبر القاريء على الرؤية من منظور كل من الصوتين على حدة، والتنقل بين الأزمنة وقراءة تاريخ الأمة بتأويل الكنز التركي وتحولات دلالاته بين الزمنين.

خاتمة:

التجريب هو ممارسة لصيقة بالإبداع، والرواية مجال رحب للتجريب، وفي تقاطعهما معا أخذت تتجلى مظاهر نهضة ثقافية واعدة، تتبدى في هذا الكم الوافر من النتاج الروائي، الذي استحوذ -أو كاد- على الساحة المحلية، ولفت انتباه العالم إلى هذه البقعة المنسية. والتجريب على مستوى الشكل الروائي هو مجال رحب لا يمكن حصره، فهو قائم على التمرد على الحصر، وقد تأملت عددا من أشكال التجريب في الرواية المحلية فوجدت أوسعها انتشارا ما ينتمي إلى ممارسة أسلوب ما وراء السرد، وهو أسلوب يتقاطع من جهة ما مع مظاهر سلطة القاريء وحضوره في النص، فهو يعتمد بشكل أساس على إشراك القاريء في لعبة الكتابة، سواءً من خلال الخطاب المباشر(القاريء الممسرح كمخاطب) أو الضمني(القاريء الضمني)، وسواء من خلال مساءلة قضايا الكتابة أو من خلال مضاعفة وسائل التأويل.  وفي هذه الورقة لم يكن التركيز على تحليل الروايات النماذج وفق هذا الأسلوب، بل إن المراد هو توضيح النقاط التي تدعم بها هذه التقنية تيار التجريب في الرواية، كما تَمثَّل ذلك في الرواية المحلية.

 “لغط موتى”، “روحها الموشومة به”، “الغيمة الرصاصية”، “المكتوب مرة أخرى”، “حب في السعودية”، وغيرها من النماذج، كلها تستحضر وقائع الكتابة وقضايا السرد داخل النص الروائي، إما كموضوع مباشر، كما في عمل الدويحي، أو كوسيلة سردية كما في عمل بادي، وأعمال سيف الإسلام وتركي الحمد.  وهي بالطريقتين كليهما يفترض أن تضيف قيمة جمالية مضاعفة للنص، من خلال مضاعفة الفعل الذي يؤديه القاريء في العملية الإبداعية، فهي تظل تولد من جديد وتتفجر بصورة مختلفة في كل مرة تحظى فيها بقراءة مثمرة. والقراءة المثمرة لا تنتج إلا من نص مفتوح، مليء بالفراغات القابلة للملء بصورة مختلفة في كل مرة، وهذا ما تتيحه تقنية ما وراء السرد، بالتقاطعات التي تطعم النص بها بين مستويين سرديين أو أكثر. وانفتاح النص لتأويل لا نهائي، كما يتبدى في تقاطع مستويين سرديين أو أكثر، هو ما يمكن أن يمثل نوعا من “الحوارية”، بمعنى تعدد المنظورات، وهما من أهم القيم الجمالية التي يلتقي عندها التجريب بما وراء السرد. وتلتفت هذه الورقة إلى علاقة هذه التقنية بأزمة المثقف في علاقته بالمجتمع، على أنها تشير إلى أن ذلك ينبغي ألا يكون الدافع الوحيد لتوظيف هذه التقنية، لأن ذلك سيفقدها مزاياها الفنية، التي يمكن أن تضيف بها الثراء لمسيرة التجريب في روايتنا المحلية.

ربما يعجبك أيضا