الرواية السعودية على ضفتي الحداثة

علاقة الرواية بالمجتمع وتحولاته علاقة مصيرية كما هي علاقة نشأة، فالرواية فن اجتماعي بالأساس، وتحولاتها مرتبطة بتحولات المجتمع، ولهذا ازدهر النقد السردي بداية مع ازدهار النقد الاجتماعي الماركسي لدى لوكاتش وجولدمان، لا سيما في نقاشاتهم حول الفرد الإشكالي[1]. وليس الفرد الإشكالي كمكون لشخصيات الرواية من البطل والشخصيات المحيطة به إلا نتاج مواجهة وصدام بين الإنسان والمجتمع. وهنا تبرز الهوية، في المنطقة الواقعة بين الفرد والمجتمع والصدام بينهما. و منذ فجر الرواية السعودية وهي مشغولة بسؤال الهوية، بشتى الطرق والكيفيات، وليس عجيبا انشغالها بهذا السؤال، فهو سؤال الرواية بشكل عام، وأثر تحولات المجتمع على الإنسان، هو أثر يقع غالبا على وعي الإنسان بذاته أي على هويته، فالهوية في أهم تعريفاتها هي وعي الإنسان بذاته وتمايزه عن الآخرين.  وهكذا تتبدى علاقة الثالوث: الرواية والمجتمع والهوية، التي تكون الرواية شكلها وبنيتها، والمجتمع والهوية روافدها.

التعاطي مع الهوية سرديا :

     يمكن ملاحظة حضور الهوية في الرواية السعودية، أو علاقة الرواية بالهوية، من خلال  كون  الرواية بفضائها الحر، وتسيدها المشهد الثقافي في الوقت الراهن، هي الأكثر قدرة على رصد حياة المجتمع، وكذلك القناة الأفضل لتفريغ المشاعر تجاه أي قوى مهيمنة، أو للتعبير عن الأفكار،  مما يجعل الرواية  في مواجهة مع المجتمع وقواه الفاعلة كمسألة الهوية. والتعاطي مع الهوية في العمل السردي قد يظهر أثره على البنية السردية، على المكان، أو اللغة أو الشخصيات، أو حتى الزمن، وقد يكون حضورها كموضوع ومحتوى للرواية، كما قد يكون حضورها واعيا أو لا واعيا من قبل الكاتب. ولم تناقش الروايات السعودية فلسفة الهوية غالبا، إلا ما يمكن أن يجيء لماما في مقاطع من بعض الروايات، بل تعاملت مع قضاياها، كالدين والعرق والجنس والإقليم.

الرواية / الهوية / التحولات الاجتماعية :

وحين نتحدث عن الرواية والتحولات الاجتماعية، فنحن نتحدث عن تحولات اجتماعية عامة، أثرت في قطاع عام من الكتابات الروائية، وظهر أثرها جليا فيه، وفي منطقتنا مرت المنطقة بتحولات كبرى، ذات إيقاع متسارع، كان لها أثرها، لكنني سأقتصر في تناولي على أهم التحولات التي تركت أثرا كبيرا وملموسا، في الروايات المتأخرة، وهي حرب الخليج الثانية، وأحداث 11سبتمبر. في الأولى واجه جيل من الروائيين ضربة في عمق اعتداده بالهوية،  وهي هنا القومية العربية، في قضية العراق واعتدائها على الكويت، واختلاف الأشقاء، و ما نتج عنه من تداعيات كسحب مميزات الإقامة من اليمنيين. كان تهديدا صارخا للهوية، تعامل هؤلاء الروائيون مع هذه الضربة كموضوع، لكنهم واجهوها بتماسك في بنية الرواية، وحبكتها وهوية موحدة تحكم أعمالهم، غالبا ما تكون صبغتها قومية، فإذا ما تعرضت الهوية العربية لهزة قوية، كان الروائي يواجه ذلك بلملمتها وإعادة بنائها، عبر بنية الرواية وأدواتها السردية.

في 11 سبتمبر وجهت للأصولية الغربية ممثلة في أمريكا ضربة قوية، من أصولية لا تقل عنها مركزية في هويتها ، فكان استعراضا لقوى وهيمنة أشكال من الهوية، شعر بتهديدها أطراف مختلفون في أنحاء العالم، يمثلون توجهات مختلفة، تقاوم ما تمثله الهوية من سلطة وعنصرية. هذه المرة جاء التهديد من الهوية كسلطة مهيمنة، فجاء الرد في مجموعة من الروايات مثلت توجها معاكسا للتوجه السابق، وهو توجه يظهر في موضوعاتها وبنياتها، فموضوعاتها لا يجمعها رابط ولا هوية، سوى التمرد على كل شكل من أشكال السلطة، والثورة على كل ما يمثل الثبات في الهوية، وبنياتها تعكس غالبا آثار تفسخ الهوية وانحلال الوعي بالذات.

الرواية السعودية بين تجربتين على ضفتي الحداثة :

ما علاقة التحولات الاجتماعية التي مرت بها منطقتنا بالتحولات التي مرت بها الرواية بين توجهين متضادين فيما يخص الهوية ؟ ما الخيط الذي تجتمع وتفترق حوله هذه المكونات لهذا المنظر من مشهدنا السردي ؟ إنه خط فكري وثقافي وفني يجمع بين هذه المكونات ويفسر تحولاتها، إنه حضور الحداثة كفلسفة ومذهب فكري عالمي ، وحركة ثقافية فنية أثرت في ثقافتنا تأثيرا لا يمكن إنكاره. ولا يمكن أن نتحدث عن الهوية ما لم نعرج على الحداثة، فعلاقة الحداثة بالهوية لصيقة، حيث ازداد الشعور بالهوية الغربية في عصور التنوير، وتعمق سؤال الهوية، مع اتقاد شعلة الحداثة الغربية وانتشارها في الآفاق. وارتبطت الحداثة في تحركها العالمي بالقوميات وانتعاش الشعور بالهويات، والعنصريات المختلفة، وهذا ما يفسر علاقة الحداثة كحركة ثقافية في العالم العربي بالقومية العربية. كان من نتيجة ذلك أن نهض مفكرون غربيون وغير غربيين، وانتقدوا هذه العنصرية، ودعوا إلى تحطيم هذه المركزية، ودعوا إلى عولمة الثقافة، ومعها تعويم الهوية، التي تحولت إلى شبح متعاظم لأشكال من السلطة، وعدم جعلها عقبة في طريق العولمة وامتزاج الثقافات والشعوب، تحت لواء “ما بعد الحداثة”، التوجه الذي تحمل مسؤولية مناهضة كل ما تمثله الحداثة من مظاهر العنصرية والمركزيات.

لا يعني هذا أننا سنعمد لتقسيم الروايات السعودية لرواية أجيال، فلا زلنا على عتبة الكتابة الروائية لم نقتحمها بعد، ولا يسمح الأمر بتقسيم فني صارم الملامح، فليست هذه القراءة مجالا لذلك، وإنما هو نوع من تغليب بعض السمات الفنية، من منظور معين تنتهجه هذه القراءة، لمجموعة من الروايات، ينتمي بعضها لتجربة أقلام تتسم بسمات التجربة الحداثية فيما يخص الهوية، وحدة الوعي بها والاعتداد بتميزها، ومظاهر ذلك جماليا في العمل الروائي، وينتمي بعضها الآخر لتوجه مغاير، يستمد اسمه من مضادته للحداثة، توجه فقد الإحساس بقيمة الهوية، وشعر أنها مجرد قيد على حريته، ومن ثم فقد كثيرا من قيم وعيه بذاته، مما تصاحب مع تشظي تلك الذات وانتشائه بذلك التشظي.

حدة الوعي بالذات (الهوية)  في التجربة الحداثية :

تظهر سمات التجربة الحداثية في الرواية في حدة الوعي بالذات وتمايزها أي بالهوية، ولذلك كانت حرب الخليج الثانية مؤثرا قويا على الرواية، لكن حدة الوعي بالذات وتفاعلها معه هو الذي أنتج موضوعات شديدة التشابك مع هذه الأزمة، وشديدة التناسج معها، حيث تظهر تفاعلاتها معها في مضامينها وموضوعاتها ونوعا ما في بنياتها وتقنياتها السردية، فبقدر ما يكون الموضوع هو تشظي الهوية والفجيعة أمام انهزامها، وتكسرها، تكون البنية عملية إعادة بناء ولملمة لأشلاء هذه الهوية المتناثرة، عبر تقنيات الرواية المختلفة من الصوت السردي وعدسة السرد والمكان والزمان واللغة، مما يمد الرواية بقدر من التماسك والتعقيد والتصاعد المقنع للأحداث عبر توظيف الزمن والمكان والمنظور السردي. ومن أمثلة ذلك رواية “نباح”[2] لعبده خال، حيث تدور حول قصة حب شاب سعودي لفتاة يمنية، يختار والدها الرجوع لليمن، في فترة أزمة حرب الخليج الثانية، عوضا عن الخضوع للمساواة بالأجانب الآخرين، والخضوع لقانون الكفالة، اعتدادا بهويته، واعتزازا بكرامته، وفي نباح تظهر الهوية الإقليمية، السياسية، اليمن مقابل السعودية، في نباح ثورة ضد التفرقة بين أبناء الوطن العربي الواحد. صرخة ضد أن تصبح الهوية وسيلة للتفريق بين أبناء الأمة الواحدة. اختلاف الهوية السياسية في نباح هو الذي يقدح شرارة الحدث الرئيس في العمل، ويحكم سير الأحداث الفرعية، ويتحكم في الحبكة بصفة عامة، وكانت الرواية في بنيتها لملمة لأشتات الهوية الممزقة على أشتات الوطن الممزق والأمة المشتتة، فانتقال عدسة السرد من بلد لبلد ومن مكان لمكان ومن زمن لزمن كان الخيط المحرك للسرد، كما أن الرواية اتكأت على فسيفساء من تشكيلة من مختلف أعراق الوطن العربي في نسيج يحاول إحكام مشهد موحد للهوية العربية الواحدة وأزماتها الكبرى من خلال شخصيات البعثة الإعلامية الموفدة لليمن، وهو الحدث الإطار للرواية.

وفي السياق ذاته تأتي رواية “البحريات”[3] لأميمة الخميس، و يحيل هذا العنوان “البحريات” الى هوية جغرافية ترمز للهوية الثقافية، الثقافة المتمدنة مقابل الهوية الصحراوية بكل خلفياتها وأعرافها البدوية، البحريات، نساء يجلبهن رجال من الجزيرة العربية، من سواحل الشام، يجلبونهن صغيرات في السن، زوجات ، جميلات، غضات، يعانين الغربة وتغير البيئة، من مجتمعات مدنية متحضرة، إلى مجتمعات بدوية متشددة في قلب الجزيرة العربية، تتأثر بنية الرواية بهوية البحريات ودفاعهن المستميت عن ذواتهن أمام تصلب البيئة النجدية، حيث يواجهن الهوية المتشددة المتمركزة حول نفسها ، بفتح ثغرات في بناء تلك الهوية المنغلق، عبر اللغة، ومد حبال الكلام، ويمثل تماسك الصوت السردي وحبكة الرواية ظلا لبحث البحريات عن هويتهن القومية وسط مجتمع يرفض وجودهن، البحريات صرخة ضد تمزق الجسد العربي والهوية العربية الواحدة وتشظيها ومحاولة لإعادة بنائها عبر حشد عدد من الانتماءات المختلفة للعرق العربي الواحد، وبناء تجانسها سرديا في خطوات وإيقاع زمني ومكاني هاديء ومنتظم ومنسجم، ومستوعب لتحولات المجتمع السعودي من البيئة البدوية الصرفة للبيئة المتحضرة وعصور الرفاهية . هي رواية حداثية تمثل عودة للصوت الحداثي، وتمثيلا لوعيه تجربته وعنايته بها وبصقل هوية خاصة تميزه في تاريخ السرد المحلي والعربي .

أما في “مدن الدخان”[4] لأحمد الدويحي، فمحور الرواية يكاد يكون الزمن، زمن الحكاية، هو زمن التحولات الكبيرة، زمن جيل عاش قضية الأمة، ضياع فلسطين، وحروب بين الأخوة. زمن هجرة أبناء الريف للمدن ، ونشوء جيل من المتعلمين، يحاول تحويل الوطن معه إلى سكة الزمن الحديث. وهكذا تأخذ عدسة الزمن في مدن الدخان موقع الاسترجاع، هو زمن متأرجح بين الماضي والحاضر، يهتز فيه الوعي بالذات اهتزازا قويا، لا يقوى صابر بطل الرواية على استيعابه، فيأخذ دور الشاهد والمراقب، على ذلك الزمن، ولعل هذا الدور يتكثف أكثر عبر مهنته، التي يأخذ فيها دور الرقيب على المشاهد التلفزيونية. الرقيب الذي يمزق ويرتق المشاهد، كما يحدث – انعكاسا لدوره – في الرواية، بحيث تتحول حركة السرد إلى استرجاع متكرر، تقوم فيه أجزاء الحكاية جسورا يتصل عبرها تصور البطل لهويته.

في مدن الدخان ، لا يؤثر دخان المدن على لون البطل صابر الشاحب وحسب ، بل يمتد ليغلف كل عناصر النص ، حيث تختلط في الحكي شخصية صابر بشخصية الفتى ، الذي يشكل بحضوره الرمزي شخصية رئيسية في الرواية . غياب الاسم هو تأكيد لحضور الفعل ، فما هو الفعل الذي يؤديه الفتى في الحكاية والحبكة ؟ الفتى رمز لضياع الهوية ، الذي يظهر في تبادل مواقع السرد ، من الراوي ، لصابر ، للفتى ، وضياع خيط السرد بين الثلاثة ، الهوية التي ضيعها صابر في دخان المدينة ، وقضى نحبه باحثا عنها .

تشظي الهوية في عالم ما بعد الحداثة واضطراب مفهومها :

لعل من أهم مصطلحات ما بعد الحداثة وتطبيقاتها الكاسحة ، العولمة ، فما علاقة العولمة بالهوية ؟ وهل تعمل العولمة على توحيد العالم أم على تجزئته.؟ والسؤال الذي يتشكل من جديد: ما الهوية التي تعد بها العولمة.؟ وما هو وجه الاختلاف بينها وبين الهويات السابقة؟ في العولمة ليس هناك من هوية ثابتة و ساكنة ، أو مكتفيه بذاتها. أحيانا العولمة لا تهدد الهوية بالفناء أو التذويب، بل تعمل على إعادة تشكيل هذه الهويات على منوال احتياجات ومصالح جديدة. وهكذا يمكن تناول ظواهر العولمة في الروايات السعودية، مثل الانترنت، والجوال، والتقنية بمختلف أشكالها، التي أصبحت ظواهر تكاد تميز الخط الجديد من الروايات.  

الهوية بالنسبة للعولمة التي هي نقيض لكل ظاهرة سلطوية ، ليست نقيضا إلا بقدر ما تشكله من سلطة واستبداد ، وقد تحضر الهوية كسلطة قاهرة، فوجود الهوية النافذة التي تحاول السيطرة هي أكثر ما يحفز الروائي على البوح وكشف المخبوء وبجرأة شديدة، ومن ذلك روايات المرأة التي تدافع عن هوية الأنثى ووجودها في مواجهة التسلط الذكوري والإقصاء الذي تتعرض له بفعل ثقافة المجتمع السائدة. ومن الملاحظ على الروايات التي تمثل التيار المقاوم لسلطة الهوية توكيدها لهذه المقاومة ابتداء من العنوان، فالهوية كمبدأ مرفوض حاضرة منذ العنوان، محاصرة وخاضعة للتمييز والإقصاء، “حب في السعودية”[5]، “بنات الرياض”[6]، “الآخرون”[7]،”سورة الرياض”[8].

في الآخرون، يشير العنوان إلى الآخر، المغاير للذات، من هم الآخرون في الرواية؟ السنة مقابل الشيعة والذكر مقابل الأنثى، السوي مقابل الشاذ، درجات من الهوية تحضر في الآخرون، تمررها الكاتبة عبر العنوان. الآخرون هم الجحيم، عبارة تصدر بها الكاتبة روايتها، وهي عبارة ملغزة، فهي من جهة يمكن أن تتضمن اعتراضا مجازيا على مضمونها، الذي يتضمن التفرقة العنصرية بين فئات من البشر، أو لعلها اعتراف وتوكيد لمعناها الذي يعني الآخرون من الذكور، كون الرواية تتضمن انحياز البطلة جنسيا لعالم الإناث، وهو أمر ينطوي على خلفيات نفسية معقدة وعميقة . ومن الملفت أن هذه الرواية تقوم على حدث رئيس هو انحراف البطلة الجنسي تجاه بنات جنسها وميولها المثلية، وهذا يعني أن الرواية تتأسس على خلل في الهوية، إذ أن هوية البطلة لا تتجه للتحقق بالتمايز والاختلاف، كما هو المعروف، بل تتجه للارتداد على ذاتها والتماثل معها، وهذا ما تحققه العلاقات المثلية، وهذا شكل من أشكال تكسير الهوية وتمييعها. الآخرون في النهاية صرخة ضد التمييز بكل أنواعه، ضد الهوية المركزية، ومطالبة بالمساواة، بتذويب الهوية، والمساواة في ظل هوية إنسانية واحدة، لا يفرق فيها بين سني وشيعي، ولا بين سوي وغير سوي، ولا بين ذكر وأنثى.

     ينعكس تفكك الهوية وكسرها في الرواية على بنيتها ، ففي “الآخرون” تتألف البنية السردية من مجموعة من القصص القصيرة والأحداث الملصقة بعضها ببعض، بشكل أفقي يفتقر للتصاعد والتشابك المقنع للأحداث والتفاصيل، بحيث لا تكاد تجمعها حبكة، إنه نوع من الانتشاء بتكسر نموذج الهوية مرة بعد مرة، تمارسه بطلة الرواية عبر حشد من العلاقات المكررة، تكرر الصورة نفسها لذات تتشظى وتفقد ملامحها، ووعيها بتلك الملامح، في سبيل تحطيم شبح الهويات المسيطرة : السنة ، رجال الدين الشيعة ، الذكور ، إلى آخر هرم السلطات في المجتمع .

     وتتصدر الهوية عنوان رواية أخرى هي “بنات الرياض” لرجاء الصانع،وهي رواية تتمحور كما هو واضح من اسمها حول هوية مكانية وثقافية معينة هي بيئة الرياض، بما تحيل عليه من عادات وتقاليد وصبغة دينية متشددة، تدور أحداثها في فضاء الرياض / المدينة، وتتمحور حول الرياض / الهوية. مجموعة فتيات يواجهن هذه الهوية الخانقة لهن، ويتمردن عليها بطرق مختلفة، تتمثل في سلوكيات خارجة عن حدود الإطار الذي تمثله الرياض كهوية ثقافية معينة. وبالمثل تتشظى بنية الرواية في بنات الرياض، فتأتي على صيغة مجموعة رسائل بريد الكتروني مجمعة وملصقة بشكل عشوائي لا يمثل أي حبكة روائية. وهو ما قد يرتبط بشكل ما بتشظي الوعي بالذات، وانفصال الهوية عن نموذجها وضياعها بين أصل في الرياض، تحاول الكاتبة أن لا تنفك عنه انفكاكا كاملا، ونموذج خارجي من الشرق وآخر من الغرب، يتم احتذاؤه بدون هدف ولا نظام ولا غاية، في محاولة توفيقية غير ناجحة، لأنها اعتمدت الشكل وأهملت الجوهر، ونظرت للأمور بشكل عشوائي يفتقر للمنطق والمعالجة السردية القائمة على التصاعد الدرامي المقنع.  

     وهناك عملان يتساوقان في مضمونهما وإن كان لكل منهما استقلاله الفني ، هما “جاهلية”[9] لليلى الجهني، و”ميمونة”[10] لمحمود تراوري ، وفي كلا العملين رفض للعنصرية ولتسبب الهوية في ضعف عنصر أمام عنصر آخر متسلط. تتحدث ميمونة عن الأفارقة المجاورين للحرم المكي الشريف، وظروف معيشتهم ومعاناتهم في الاندماج وسط البيئة السعودية، وتتحدث جاهلية عن قصة حب مرفوضة اجتماعيا تربط شابا من أصل أفريقي بشابة سعودية، ويشير العنوان مباشرة إلى البيئة الجاهلية، في مقابل الإسلامية، تلك البيئة التي يتمايز فيها الناس حسب ألوانهم. انه صراع القيم، الذي يظهر في تناقض الهوية، وتخلخلها هذا التناقض هو الذي يدفع أحداث الروايتين للتقدم والتشابك، ويتحكم في حبكتهما وجسميهما. ظهر الإحساس بضياع الهوية من خلال تيه الشخصيات في المكان والزمان، المجاورون للحرم بلا مكان في ميمونة، وبلا تاريخ في جاهلية، سوى تاريخ مثقل بالتيه والرحيل في ضياع العبودية من عصر إلى عصر وقارة إلى قارة. لكنه لم يظهر في تفكك بنية الرواية ولحمتها كما حدث في مجموعة روايات الآخرون وبنات الرياض وحب في السعودية، وهذا اختلاف يحسب للروايتين وتميز ينبغي الإشارة إليه.

ما الذي يميز جاهلية وميمونة عن بقية جيلهما؟ وما الذي يجعل من الروايات الأخرى تتأخر في مستواها الفني عن الروايتين الأخيرتين؟ هل هو اتجاه ما بعد الحداثة كسبب ثقافي وفلسفة ينتهجها الكتاب؟ أو أن هناك أسبابا أخرى تقف وراء ذلك؟

خلاصة :

فيما سبق من نصوص حاولت عرض أحد الوجوه التي تتخذها علاقة التحولات الاجتماعية بالرواية، وقلت إن منطقة تفاعل تلك التحولات والرواية هي الهوية. وفي الرواية المحلية كان من أبرز التحولات الاجتماعية حدثان تركا أثرهما عليها، هما حرب الخليج الثانية وأحداث11سبتمبر. جاء أثر الأول على الرواية أثناء توهج شمس الهوية مع سطوع نجم الحداثة في التسعينات امتدادا للثمانينات، متخذين معا شعار القومية العربية رمزا لهما. كانت حرب الخليج ضربة قاصمة للهوية القومية، فجاء الرد سلسلة من الروايات التي تناولت آثار هذه الحرب على الهوية وتشظياتها، وتولت لملمتها وإعادة بنائها عبر بنياتها السردية، التي لم تفتقر للمعالجة السردية المتماسكة،القائمة على الإيقاع المتصاعد الذي يتناسب مع موضوع مواجهة تمزق الهوية، وإعادة بنائها، ولملمة أشتاتها، تجانسا مع منزع فكري لا تنفصل فيه البنية عن الذات.             

       أما أحداث 11 سبتمبر فمثلت ظلا لصراع بين هويات تتنافس على سلطوية ومركزية حاولت أن تنطلق من قلب العالم الاقتصادي، وكانت بمثابة منبه لحركة تدور في الما حول، حركة وصراع كنا بمعزل عنها، وتم إقحامنا فيها بشكل صارخ، وجاء الرد هذه المرة من جيل آخر، جيل وجد نفسه مشاركا في هذا الصراع، فوجد نفسه يسير في مركب ما بعد الحداثة، واعيا أو بلا وعي، يقاوم سلطان الهوية وشبحها المتعاظم، مدافعا عن حرياته واستقلاله. إنه جيل يحتفل بتشظي الهوية وينتشي بالتيه و يعاني انعدام الوعي بالذات، إلا أن جيل الحداثيين استمر يجتر أحزان القومية والهوية الضائعة، ويجلد نفسه بحدة الوعي بالذات، تلك الحدة التي أنتجت الفرق الأساسي الأهم بين الجيلين: الاعتداد بالذات وحدة الوعي بالتجربة في التجربة الحداثية ، ومقاومة سلطة الهوية  والانتشاء بتشظي الوعي في التجربة ما بعد الحداثية، وهو فارق لاينفك عن أن يكون جزءا من التحولات الاجتماعية التي أنتجت هذا التحول الفكري غير المستتر في كثير من المظاهر الثقافية التي يتجه إليها شبابنا من الحداثة إلى ما بعدها، ومن تلك المظاهر ظاهرة الالتزام الفني والوعي بشروط التجربة في الروايات التي تمثل التجربة الحداثية، وضعف ذلك الوعي المرتبط بعدم الالتزام في التجربة ما بعد الحداثية.

وإذا كنا تناولنا رواياتنا المحلية في ضوء المصطلح الغربي، فهذا جزء من اندماجنا في منظومة الثقافة العولمية، عطفا على العولمة التي فرضت نفسها على كل مظاهر حياتنا، لكن هذا لا يعني أن رواياتنا هي تمثيل حرفي لتلك المصطلحات، فلا يمكن الجزم مثلا بأن تفكك بنية الرواية لدى الجيل الجديد من الروائيين راجع كليا لانتمائهم لفلسفة ما بعد الحداثة وتأثرهم بها، رغم وضوح مظاهر هذه الموجة وإن كانت سطحية على رواياتهم وتفشيها بلا جدال، من خلال توظيف وسائل العولمة المختلفة من الحاسب والجوال وغير ذلك من وسائل الاتصال والتقنية، ومن خلال مضامين ثقافة ما بعد الحداثة التي تناولناها، ومن خلال حضور هاجس الحرية وإلحاحه في أعمالهم، إلا أن هناك أسبابا أخرى قد تتعلق ببيئتنا المحلية وظروف مجتمعنا الثقافية، فتفكك بنية الرواية لدى الجيل الجديد قد يكون مرتبطا نوعا ما بحداثة تجربته وتسرعه في النشر، بعكس جيل الحداثيين. وتجارب تراوري والجهني مثلا تدعم هذا القول، فهم من الجيل الجديد وكلهم منشغل بمواجهة شبح الهوية المتضخم على حساب هويات أخرى مسحوقة، من غير أن يؤثر هذا في نضج تجربتهم، روايتا جاهلية وميمونة مثلا كانتا تجسيدا مثاليا  لمباديء ما بعد الحداثة في الثورة على تهميش الإنسان لعرقه وتمجيد هوية أخرى لعرقها، لكنها قدمت مستوى متماسكا في الحبكة وبنية الرواية لأنها لم تتأثر بتسرع في النشر ولا بحداثة التجربة، بل كانت تجربة تقترب من النضوج..إذن التجربة الحداثية لها دور في نهضة الرواية، لكن اتجاه ما بعد الحداثة ليس مسؤولا كل المسؤولية عن كبوتها، إلا أن هذه التجارب القريبة من النضج لا تنفي أثر الحداثة كمنزع فكري، فإذا كانت الحداثة كفكر تفرض نوعا من الالتزام والمراقبة للذات في ضوء الاعتداد بالهوية، فان فلسفة ما بعد الحداثة ترتبط لدى بعض روائيينا بالفوضى الفكرية ورفض الاعتداد بأي مكتسبات، ومن هنا تغيب أي رغبة في مراجعة الذات ومحاسبتها لدى الروائي قبل عملية النشر، لدى جيل ما بعد الحداثة، إلا ما ندر، وارتباط الفوضى واللا معنى بثقافة ما بعد الحداثة هو ظاهرة ناتجة عن قراءة منقوصة لهذا المصطلح الفضفاض، الذي يحتاج لإلقاء المزيد من الضوء على دلالاته وحضوره العالمي، ما دام حاضرا في ثقافتنا شئنا أم أبينا، وما دام يتمدد بأشكال مختلفة تتسلل إلى مناحي حياتنا كافة، مسرودة وغير مسرودة، فإذا كنا سنشارك في المشهد الثقافي العالمي مجبرين، من خلال سيرورة العولمة وتجلياتها، فلتكن مشاركتنا مشاركة واعية قائمة على الانتقاء، لا عشوائية مؤسسة على الانقياد الأعمى كما هو الواقع بكل أسف.


[1] – فيصل دراج ، نظرية الرواية والرواية العربية ، المركز الثقافي العربي ، 2002

[2] – عبده خال ، نباح ، منشورات الجمل ، 2004

[3] – أميمة الخميس ، البحريات ، دار المدى ، 2006

[4] – أحمد الدويحي ، مدن الدخان ، دار الكنوز الأدبية ، بيروت ، 2006

[5] – إبراهيم بادي ، حب في السعودية ،دار الآداب ، بيروت ، 2007

[6] – رجاء الصانع ، بنات الرياض ، دار الساقي، بيروت،2005

[7] – صبا الحرز ، الآخرون ، دار الساقي ، 2006

[8] – أحمد الواصل ، سورة الرياض ، دار الفارابي ، بيروت ، 2007

[9] – ليلى الجهني ، جاهلية، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى، 2006م.

[10] – محمود تراوري ، ميمونة ، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، الطبعة الأولى، 2002م.

ربما يعجبك أيضا