مالك بن نبي ، شاهد على العصر

عكاظ 2007
لا تقوم حضارة في أي أمة ما لم تتكيء في نهضهتا على مشاريع فكرية رائدة تنهض بها, وكل الحضارات التي تسود اليوم ما هي إلا نتاج مشاريع فكرية بالأساس , حددت الأهداف والوسائل , وعملت بدأب ضمن إطار زمني مستديم. والأمثلة على ذلك حاضرة في عالمنا اليوم , سواء تلك تشكلت في نطاق دولة ما مثل المشروع الياباني الذي غزا العالم بمفاهيم التقدم التقني, أو تلك التجمعات التي شملت قارات بكاملها كالاتحاد الأوربي أو ما يسمى بنمور آسيا.

إن أمتنا التي تحمل رسالة الحق للعالمين يفترض أن يكون لها المكان الرائد بين الأمم تبعا لذلك. وبرغم ما تمر فيه أمتنا العربية والإسلامية اليوم من حالة من الركود الضعف في ظل التغييرات المتسارعة حولنا والتي لا ترحم ولا تنتظر أحدا , إلا أن ذلك لا يعني الركون بل على العكس، يعد النهوض بمشاريعنا الفكرية والتي نملك منها الكثير بدءا من صدر التاريخ الإسلامي وحتى عصورنا الحالية, وانتهاج هذه المشاريع هو السبيل الوحيد لتعود أمتنا من جديد لتقود العالم وتقدم رسالتها. وهذا ما يجعله مطلبا ملحا يجب تفعيله والتخطيط له رأسيا وأفقيا, ساسة ومحكومين, علماء وعامة, تفكيرا وتوعية وإنتاجا. ولم تخل أمتنا في كل فتراتها من مجددين ومفكرين يحملون لواء تقدمها ورقيها مثل محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي والمعاصر محمد أركون الذين حملوا لواء مشاريع فكرية لم يتم استيعابها ناهيك عن تطبيقها, لكن يظل المفكر الكبير مالك بن نبي أحد أهم أولئك الذين حملوا مشاريع فكرية رائدة استوعبت الحضارة المعاصرة واتسقت معها ولم تنفصل عن الحضارة الإسلامية بثوابتها ومقوماتها. وضمن هذا السياق وقع تحت يدي كتاب ضمن سلسلة روائع أفكار رواد الإصلاح في العالم الإسلامي , عن مركز الراية للتنمية للكاتب المغربي رشيد أورّاز عن المفكر الجزائري مالك بن نبي, عنوانه ” مالك بن نبي – عودة إلى الذات – الفعالية والسننية”, وقد رأيت في الكتاب فائدة عظيمة من جانب توعية جمهور القراء الذين لا يسعهم التعمق في صلب الأفكار الفلسفية لبناء الحضارات والمجتمعات الرائدة والمنتجة وذلك لما يحمله الكتاب من تسلسل مبسط على شكل نقاط تم تبويبها موضوعيا حول قضايا الحضارة والتقدم والتاريخ والمجتمع والدين والعمل والإنتاج. يقول مؤلفه أنه استلهم فكرته المبسطة في شرح فكر مالك بن نبي من سلسلة فرنسية ضمت أفكار فلاسفة أوربيين كانت تعالج قضايا محدده , وجاء بناءَ على تلك السلسلة الكتاب كمقتطفات ثمينة على هيئة نقاط, من كتب بن نبي الكثيرة والتي لم يستطع العقل الإسلامي استيعابها بعد, ومنها تحديدا كتب: “شروط النهضة والقضايا الكبرى”, و”من أجل التغيير و مشكلة الثقافة”, و”وجهة العالم الإسلامي”, , و”ميلاد مجتمع”, و”في مهب الريح” و”بين الرشاد والتيه” إضافة للكتاب الجميل “الصراع الفكري في البلاد المستعمرة” ومذكراته “شاهد للقرن” التي لم يكملها قبل وفاته. وقد قسم المؤلف الكتاب لاثني عشر فصلا تحدث في عشرة فصول منها عن مفاهيم الحضارة والتأريخ والاستعمار والثقافة والفكرة الدينية وسنن المجتمع والاقتصاد والنهضة, وعوالم النفس والأفكار والأشخاص والأشياء. وختمه بفصل عن مظاهر أزمة العالمين العربي والإسلامي, وسلسلة مقالات عن قضايا عامة ضمن السياق الفكري والاجتماعي ذاته, مثل المرأة والفن والجمال والعمل والنقد والسياسة. وجاء في مدخل الكتاب, قراءة مختصرة لسيرة مالك بن نبي. وبنظرة فاحصة على فصول الكتاب العشرة الرئيسية, نجده يعرض بالتحليل أفكار بن نبي في سنن الحضارة ودورتها وعن التأريخ و صناعته, كما ذكر محاولات النهضة وفشلها, مستعرضا الأفكار الميتة والمميتة ومشاكلها في العالم الإسلامي, والثقافة وعلاقتها بالحضارة والعلم ولمجتمع, وعلاقة كل ذلك بالتأريخ صناعةّ وأفولا, في سياق عن الحديث عن سنن تغيير النفوس وعلاقة ذلك بالدين والمجتمع, والاقتصاد, ومفهوم الاستعمار والقابلية له والصراع الفكري معه, ومنتهيا للحديث عن نهضة المستقبل.
أخيرا بقي أن أقول أنه كتاب توثيقي ومرجعي مختصر لفكر واحد من أكبر مفكري القرن العشرين الذين وجهوا بتجاهل في العالم الإسلامي, وحسب الكتاب نجاحا أن يكون مفتاحا لقراءة أفكار وكتب مالك بن نبي ودراساته عن العالم الإسلامي والأمة وقضاياها, وحسب أي عنصر في هذه الأمة أن يطلّع ويستوعب ويشترك في مشاريع فكرية خلاقة تعيد للأمة ريادتها المفقودة.

ربما يعجبك أيضا