لوحة إنسانية محتشدة

عكاظ 2008
ليست الكتابة بالعمل الشاق اذا ما أزيح من معادلتها عنصر الالتزام ، لكن كيف يكون ذلك والكتابة ما هي الا الالتزام بحد ذاته ؟ وكل قلم ينضح بما في عقل كاتبه ، ويفيض بما يحمله ضميره من هموم ، لكن الكاتب يلتزم بأن لا ينفصل عن حياة الناس واهتماماتهم الصغيرة والكبيرة . ربما أكون قد استغرقت في شجون الكتابة ، وسرقتني من موضوعي الأساس ، لكنها ليست ببعيدة عنه كل البعد ، فمن وسط الناس ، ومن احتدام مشاعرهم ، انتزعتني تلك اللحظات الإنسانية الجارفة ، التي تختلط فيها قنوات شتى ، منها الوفاء ، ومنها العرفان ، ومنها الالتزام الذي تحدثنا عنه قبل قليل .
لي شقيقة تعمل في حقل التعليم ، ومدرستها على مسافة بعيدة من منزلها ، وأمام دهشتنا جميعا من إصرارها على البقاء في مدرستها ، وعدم التفكير أبدا في الانتقال لمدرسة أخرى اقرب ، استمرت تقطع تلك المسافة يوميا من والى مدرستها . وكان لشقيقتي المعلمة مبرر لتمسكها بمدرستها ، فهي كما كانت تصفها ، مدرسة نموذجية في كل شيء ، إدارة ومنسوبات وطالبات ، لكنه ظل مجرد مبرر قابل للنقاش ، حتى كانت تلك المناسبة الإنسانية الراقية ، التي جمعت كاتبة هذه السطور بمنسوبات تلك المدرسة .
ففي يوم الثلاثاء الماضي ، الموافق 19/5/1428هـ حضرت مناسبة رأيت فيها ذلك المبرر الذي تتمسك به شقيقتي ، حيا نابضا ، ينطق بجلاء بما عجز اللسان عن أن يثبته ، ففي لفتة وفاء جميلة ، أقامت منسوبات المدرسة الثانوية الثالثة والخمسين حفلا تكريميا لمديرة المدرسة الأستاذة عزيزة عبد الغفار ، التي تتقاعد بعد نيف وعشرين سنة من الالتزام بواجب وطني هو الأرقى ، أعني به سلك التعليم والتربية ، وفي ذلك الحفل المتميز ، كان الناظر يرى كوكبة متناغمة من الأرواح المحلقة والمفعمة بخليط من مشاعر العرفان ، فكانت المعلمات يتحركن في تناغم وتفانٍ عجيب في تنظيم الحفل ، واستغلال كل وسائل العرض المناسبة للتعبير عن تقديرهن للمديرة المتقاعدة ، وامتنانهن لسنوات عملهن تحت إدارتها . كان نوعا من العلاقات الإنسانية ، يعجز المرء عن وصفه وتحديده ، وساعتها فقط ، فهمت مبرر المعلمة المولعة بمدرستها ، فهو طاقم يستحق التشرف بالانتماء إليه ، وهو جو إنساني أسري ساحر يكاد يسرق المرء من كل ما يحيطه .
وبعد ، هل أكون أقحمتك عزيزي القاريء في شجوني الخاصة ؟ أو أني أردت أن أشركك الغبطة بلوحة من لوحات الإنسانية المتعددة الظلال ، ففي ذلك الحفل ، ينعكس صدى الالتزام بالواجب الذي تمثله تلك المديرة التي أفنت سنوات عطائها في البذل والعطاء ، وتخرجت من تحت يدها أجيال وأجيال ، من العقول والمواهب والكوادر الشابة ، التي تم ضخها في عروق هذا الوطن الفتي . والمديرة المتقاعدة ، الأستاذة عزيزة عبد الغفار ، هي من الأيادي البارة بوطنها ، قامت بواجب التعليم والتربية في مهام مختلفة ، على مدى يقارب ثلاثة عقود من الزمن ، توجتها بإدارة هذه المدرسة ، التي تحولت مع الوقت لمدرسة نموذجية بكل ما تعنيه الكلمة .
وفي ذلك الحفل ينعكس أيضا ضوء ساطع للوفاء والتقدير الذي يحتاجه كل فرد ليعطي المزيد والمزيد ، فكم من موظفين بذلوا سنوات عمرهم في مواقع مختلفة ، ولم ينالوا شيئا من التقدير والعرفان ، وهو تقدير ينبغي أن تتنبه له المؤسسات المختلفة ، لتوفره لمنسوبيها حافزا للمزيد من الإنتاج والتميز . أثناء فترة عملهم ، وليس فقط في مناسبات وداع . الأمر الآخر الذي يعكسه ذلك الحفل ، هو طبيعة العلاقات الإنسانية التي تربط المسؤول بمرؤوسيه ، وهي علاقة ، كما رأيتها ، نابضة بالحياة والدفء ، والكثير الكثير من الحب ، مما يفسر قدرة كل من ينتمي لتلك الدائرة المشعة على التميز والإبداع في مجال عمله ، لقد كانت حقا لوحة إنسانية تمتزج فيها ألوان من العبر ، جعلتني لا أملك حيالها إلا محاولة تعبير بسيطة ، تحية لتلك اللوحة ومبدعاتها .

ربما يعجبك أيضا