صغارنا والتشويش الذهني

عكاظ 2008
ماذا لو قال ابنك في الصف الرابع الابتدائي, قبل موسم إجازات الصيف ومع نهاية العام الدراسي, إن السفر للسياحة في الخارج حرام! صغيرك يعرف خطة العائلة للسفر لماليزيا الصيف المقبل وكان يشتاق لهذه الرحلة, ويبدو أن أحد معلميه يعرف أيضا. يداخلك شك في أن منهج ابنك في الصف الرابع, قد يحتوي أحكام السفر وسننه والاختلافات حول ذلك . تبدأ في إقناعه أولا أن ماليزيا بلاد مسلمة. وبعد أن تكون قد أطلعته على خارطة ماليزيا ومعلومات عن دينها الرسمي, يقتنع, لكن يعيد الكرة إليك, ليقول : إن السفر للسياحة حرام .
تخاف عليه من التشويش الذي خالط منطقه الصغير ووعيه, فتحاول أن تشرح له أن هذا مجرد اجتهاد, لكن ابنك يتشتت أكثر, فالمعلم الذي يعلمه الأخلاق السوية, يقول له أن السفر للخارج لا يجوز, وأنت أبوه الذي تحبه ويحبك, تعد عائلتك بسفر خارجي . صغيرك, مشوش الآن ، صغيرك يحمل الأسئلة الصعبة, ولا يملك إجابة واحدة, بل بدايات إجابات متعددة, من أناس يحبهم ويقتدي بهم, أنت ومعلمه. ليست هذه خيالات يمكن أن تحدث, بل هذا ما حدث فعلا, في مدرسة ما في الرياض, لطفل السنوات العشر في نهاية أيام الدراسة ، العام الماضي . وليس المثال الذي اخترناه سوى جزء مما قد يحدث في مجالات أخرى ، سوى مجال الدين وأحكامه ، ففي الجانب الآخر ، قد يتلقى الطفل تشويشا لثوابته الأخلاقية والدينية وخلخلة لها ، من فكر مغاير ، لأحد المعلمين ، وببين هذا وذاك يتمزق الذهن الغض .
يتعلم الطلاب داخل مدارسهم أكثر مما هو محدد لهم في مناهجم الدراسية المعدة من الجهات التعليمية المسؤولة, إذ يمرر للطلاب نوعان من المعلومات , أحدها رسمي ويتم تحديده وتفصيله بشكل واضح من قبل مختصين بمناهج التطوير التربوي, والآخر مخفي وغير رسمي, يتعلمه الطالب نظير مكوثه في مكان ما خارج بيته ، يلتقط ما ينفلت من المنهج أو ما يضيف عليه معلومات جديدة. وقد تكون هذه الإضافات مدمرة أو محفزة مع ما تنشده الأطراف الثلاثة من عملية التعليم.فكثير من المبدعين يتذكرون بوفاء انطلاقة موهبتهم عبر معلم اقتطع جزءا من وقته لرعاية الموهوبين من تلاميذه .
كلنا يعرف ما يسمى بالنشاط اللامنهجي ، وكيف أصبح يشكل حيزا يكاد يفوق المنهجي من اهتمام الجهات المسؤولة تعليميا . وهذا النشاط اللامنهجي ، وجزء منه ما يطرحه المعلم في الحصة الدراسية من أفكار ، خارج نطاق المنهج ، هو مساحة حرة ، تستوعب الطاقة الإبداعية لدى المعلم والطالب معا ، لكن ماذا إن وجه هذا النشاط في غير وجهته ؟ وأصبح مجالا للتشويش وزرع الاضطراب في ذهنية الطالب ، لاسيما الصغير ؟ في زمن انفتاح وسائل الاتصال غير المسبوق ، مما يعني انفتاح وسائل التعلم والتلقي ، ينبغي أن يتنبه أولياء الأمور لما يتلقاه الابن ، ويدخل في تكوين شخصيته من أفكار ، لكن يظل المصدر الأهم والأوثق هو المدرسة ، فعلى المدرسة أن لا تكون وسيلة لزرع التشويش في نفسية الطالب ، بل عليها أن تحرص على درجة كبيرة من الانسجام ، في ذهنية الطالب ونفسه ، وتفرق بين ما هو متفق عليه ، وقطعي من أمور الدين والتربية والحياة ، والأمور المختلف حولها . عليها أن تبقي للأمور المختلف حولها مساحتها الفقهية والفكرية ، التي لا تتحملها عقول أبنائنا الصغار ، فهي ليست مكانا للشد والجذب ، والجدل والتناقضات بين المذاهب والأفكار .
معظم ما يتم إكسابه للطفل في مرحلة التنشئة يتم- في المجتمع العربي المعاصر- بطريقة عرضية، ومن خلال مواقف هي أقرب إلى العفوية والمصادفة منها إلى منهج تربوي معد سلفا، ومخطط له، لتحقيق أهداف محددة . وهذا ما يفتح المجال أمام مصادر التشويش المختلفة ، لتجد طريقها لذهن الطفل والمراهق والشاب غير المحصن فكريا ، ونحن نعيش مرحلة تعج بمصادر التشويش المختلفة ، فعلينا أن نقف طويلا أمام أنفسنا ، ونتساءل مرارا ومرارا ، عن الاحتياطات التي اتخذناها لنحصن أبناءنا أمام هذا الكم الهادر من مصادر التشويش الفكري والنفسي والتربوي ، إنها مسؤوليتنا أولا ، وآخرا .

ربما يعجبك أيضا