أبو شلاخ البرمائي : خطوة نحو تأويل الذات

في مقال سابق ، تناولت الرواية السعودية ، وكيف أنهابصرف النظر عن السياقات الفنية تفاعل مع واقع اجتماعي معقد ، تداخلت معه ، بحيث صارت أحد إفرازاته ، وروافده ، فهي انعكاس له ، ويفترض أن تكون فعلا فيه ، في الوقت ذاته . هكذا تأتي الرواية خطابا حيا ، يتداخل مع سواه من الخطابات ، بل هو خطاب قادر على الوصول للجماهير أكثر من غيره ، ذلك لأن الخطاب السردي هو أكثر الخطابات تمثيلا للحياة ، في أعقد اشتباكاتها ، ولذلك كان هذا الخطاب موضوعا لدراسة علماء الاجتماع وعلماء النفس ، وعلماء التاريخ وحتى الفلاسفة . ولهذا لم يعد من المقبول تحييده وعزله في بطون الصفحات الثقافية ، ليتداوله النخبة في صمت وهدوء ، ولهذا أيضا علينا أن نفعّل هذا الخطاب ، ونقيم جسورا بينه وبين المجتمع ، وهذا ما أرجو أن أسهم فيه عبر تناول رواية “أبو شلاخ البرمائي” للدكتور غازي القصيبي . وليس تفاعل الجمهور ببمختلف شرائحه ، مع الرواية حين تم عرضها كمسلسل في شهر رمضان الماضي ، إلا تعبيرا عن عمق الخطاب فيها ، وقدرته على الوصول لرجل الشارع والمثقف على السواء .
“إن التخييل السردي يمدنا دون قيد أو شرط بما يسمح لنا بممارسة تلك الملكة التي تمكننا في الآن نفسه من إدراك العالم وإعادة بناء الماضي . إن للتخييل نفس الوظيفة التي يقوم بها اللعب ، فالطفل أثناء لعبه ، …. يتعلم كيف يحيا لأنه يتصور وضعيات سيصادفها عندما يصبح راشدا ، ونحن الراشدون نقوم من خلال التخييل السردي بممارسة قدرتنا في تنظيم تجربة الحاضر والماضي على حد سواء ” (إيكو/ست نزهات في غابة السرد 2005 : ص208) . هكذا جاءت : شرق الوادي ، قلب من بنقلان ، طنين ، شقة الحرية والعصفورية ، أواني الورد ، ومدن الملح ، كلها وغيرها . وكلها روايات نبتت على ضفاف التاريخ العربي ، وحاولت تفهم تياراته ، والحركة التي تنتظمها ، كل واحدة من زاوية وبأدوات مختلفة . وكلها تمنحنا مواقع مختلفة وإمكانات متعددة وغنية لفهم ذواتنا ، والتعايش معها ، واحتواء أزماتها في الطريق إلى حلها .
تتماهى رواية “أبو شلاخ البرمائي” مع الواقع العربي وتحولاته واشتباكاته ، وتحاول تفكيكها وتبسيطها ، في الوقت الذي تمارس فيه نقدها وتفسيرها . وهذا هو الجانب الذي يهمنا هنا في تناولنا لأبي شلاخ البرمائي ، فوتيرة الخطاب فيها عالية ، لدرجة يمكن معها تصور الرواية على أنها خطاب متوسل بأدوات السرد . والخطاب في “أبو شلاخ” خطاب مركب ، اجتماعي سياسي تاريخي ، خطاب يتضمن تحليلا عميقا للتاريخ العربي بوسائل السرد .
إن التجول في عوالم أبي شلاخ البرمائي ليس نزهة في غابة كما صور الناقد الايطالي أمبرتو ايكو قراءة النصوص السردية ، في كتابه “ست نزهات في غابة السرد ” ، بل هو أشبه ما يكون بتوهان في محيط ، على الرغم من محاولة الكاتب أن يسهل الأمر على القاريء باستخدام لغة محملة بأساليب التبسيط والشرح ، وتقنيات سردية تتشح بالبساطة ، بداية باللغة العامية ، ونهاية بالتوثيق الدقيق للأحداث ، ومرورا باختيار تقنية الحوار ، وهي تقنية يراد منها تسهيل الحبكة المعقدة التي تنتظم الاحداث ، وحبكة أبو شلاخ تكمن في حكايتها ذاتها ، وهي حكاية التاريخ العربي المركب في انتكاساته وإحباطاته الغامضة .
يتماهى أبو شلاخ البرمائي كسارد مع تعقيدات الواقع العربي ، ومن خلال الحوار يستطيع الكاتب استيعاب تلك التعقيدات ، فهو يضع مجموعة منظورات مختلفة على لسان الشخصيات المتحاورة ، خاصة الشخصيتين الرئيستين : الصحفي توفيق ، وابو شلاخ نفسه ، منظورات تتشابك محاولة تفسير غموض الواقع العربي من جهة ، وتعكسه في اشتباكاته من جهة ثانية . وعبر الحوار يرمي السارد حصاة على سطح مياه عميقة راكدة فتنفتح دوائر الأسئلة وتتوالد إلى ما لا نهاية . والكاتب هنا يقيم عالما تخييليا موازيا للواقع العربي ، يحاول عبره تمثيل مفارقات هذا الواقع ، بأساليب مختلفة من السخرية ، وكأن ابو شلاخ يريد ان يقول لنا أن المنطق ليس هو ما يحكم الواقع العربي وبالتــالي لا يصلح لتفسيره وفهمه والتعامل معه سوى السخرية .
وأبو شلاخ أيضا هو صوت الضمير العربي في تحولاته ، ومن هذه التحولات علاقاتنا بالآخر ، فالعربي علاقته بالآخر لا تخرج عن تطرفها بين نقيضين ، سيادة و عبودية ، ولا وسط بينهما ، وهذا ما تمثله علاقات أبو شلاخ في طفولته مع الخادمة الفلبينية ، ومع العبد الذين أسرف في امتهانهما ، وحتى مع الحيوانات التي كان يتسلى بتعذيبها ، وفي الجانب المقابل علاقاته مع الزعماء وتزلفه لكل من يخشى سطوته . والتزلف مثل التسلط تصرفان يمليهما التفكير الانفعالي ، الذي تتسم به الشخصية الضعيفة الناقصة . وليس انتشار العنف في عالمنا سواء على المستوى الفردي أو السياسي ، إلا صورة لهذا النقص والاضطراب .
أما وديعة روزفلت ، فهي كما رأيتها تصور يوتوبي لموقع العربي من أحداث العالم ، ومن تاريخه ومستقبله ، موقعه كفاعل لا كمفعول به . ولعل أهم ما استوقفني في الرواية ، التصور الجميل للتاريخ ، وهو تصور نحن في أمس الحاجة إليه ، في واقعنا المشتبك أفرادا ومجتمعات . تقدم رواية أبو شلاخ فلسفة عملية للتاريخ ، فالتاريخ ليس هو التسلسل الزمني المجرد للاحداث ، بل هو تراكم الأفعال الدالة ، فأبو شلاخ يصر على القفز فوق عتبات الزمن الفيزيائي ، وصنع زمنه الخاص ، الذي يتماهى أحيانا مع واقعه كعربي ، وأحيانا مع طموحه ، حيث يمثل أبو شلاخ الشخصية العربية في انشطاراتها بين طموحات وانكسارات .
قد تتوسل بعض القصص بالسهولة بحيث لا تتضمن حبكات ، وبعضها الآخر قد يوغل في التعقيد حتى تتوه منه الحكايات ، لكنها جميعا لا بد من أن تتضمن خطابا . وهذا ما جعل الرواية رديفة أعظم التحولات التاريخية الحديثة ، ونبض التاريخ الحديث ، وهذا ما يجعلني هنا أرجو مجددا أن تأخذ الرواية موقعها من ثقافتنا ، ومن حراكنا الاجتماعي ، خطوة نحو تفاعل الثقافة مع المجتمع ، ونزولها لساحة الجماهير الواسعة ، كما ينبغي أن تكون ، لا كما هو كائن .

ربما يعجبك أيضا