تراجيديا من أرشيف وزارة التربية


مشاكل التعليم أكبر من أن تتم الإحاطة بها في مقال واحد، لكنها تستحق الاستئثار باهتمامنا جميعا، كونها تتعلق بعصب التنمية البشرية، حيث ينعكس مستواها على مستوى الأجيال الفكري والخلقي، ومن ثم على رقي الوطن



الأحد 23 محرم 1428هـ الموافق 11 فبراير 2007م

معي هذه الصورة التراجيدية: معلمة في إحدى مدارس جدة تحمل حقيبتها، وتقف بجوار بواب المدرسة، في انتظار أن تعرف: إلى أين سيتم توجيهها في اليوم التالي؟ وأي مدرسة ستكون في حاجة إليها بسبب عجز في الكادر التعليمي؟ مشكلة هذه المعلمة أن المدرسة التي تدرس بها، بها ما يزيد على حاجتها من المعلمات في التخصص ذاته، أي أن فيها مثلا أربع معلمات في التخصص ذاته، وهذه المدرسة حاجتها وكفايتها معلمتان فقط، على أساس أن نصاب المعلمة أربع وعشرون حصة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، بما أن هذا المبدأ معروف مسبقا للجهات المختصة، لماذا يتم من الأساس توجيه معلمتين إضافيتين للمدرسة؟
تكمن الإجابة طبعا في ذيل من الأذيال التي يجرها الفساد الإداري، حيث يتم تكديس أربع معلمات في مدرسة نصابها معلمتان، ويتم تجاهل مدارس لا توجد فيها معلمة واحدة. وفق القانون الذي يحكمه هذا التشوش، هذا يجامل هذا، وعلى المتضرر اللجوء للقضاء. هذا فيما لو كان هناك قضاء فعلا يختص بمشاكل التعليم، كما لو كان هناك نقابة معلمين مثلا، أما وحدة مشاكل المعلمات التي قرأنا عنها هنا في “الوطن” من أيام، فلا أدري كيف سيتسع أرشيفها لكل ما تحفل به جعبة التعليم من قضايا.
لماذا تبقى فئة من المعلمات، كما في المدرسة المذكورة، دوما بين سنديان الواجب ومطرقة الانتداب، علما بأن انتداب المعلمة لتدرس في مدرسة أخرى، سدا لحاجة المدرسة، هو إجراء اضطراري، لا يفترض أن يتكرر إلا للضرورة القصوى، وذلك لما في الانتداب من سلبيات، تطال العملية التعليمية بأسرها، ابتداء بالطالبات التي يتغير عليهن أسلوب المعلمة، ويضطررن للتكيف مع معلمة جديدة، هذا مع كون العملية التعليمية، في أحدث نظريات التربية ـ التي يفترض أن وزارات التربية حريصة على متابعة أحدثها وتطبيقه ـ هي بمثابة دائرة، تفاعلية، يقع المعلم في وسط الدائرة، ومركزها، وليس من السهل عودة الدائرة للالتئام والتفاعل كل مرة مع مركز جديد. وبالتبادل، سوف يعاني المعلم من التلاؤم مع دائرة جديدة، في ظروف مختلفة كل مرة.
أما المعلمة المنتدبة، فتعاني إضافة إلى تغير مناخ العمل، بما يعود بالسلب على أدائها، تعاني من عدد من المشاكل، منها صعوبة توفير المواصلات، وعلى الرغم من تعلل المسؤولين ببدل المواصلات، إلا أن بدل المواصلات لا يعني اقتناع الزوج بتغيير ظروف حياته وعمله أيضا، في كل مرة مقابل ستمئة ريال. ومنها تراكم المنهج الذي تكلف بتدريسه، حيث يتم التزام الصمت المطبق من قبل المشرفات التربويات حتى نهاية الترم، ليفاجئنها بانتداب لتدريس منهج متراكم، علما بأن اعتذارها في حال عجزها عن تنفيذ الانتداب، تعاقب عليه بحرمانها من احتساب دوامها، ومن التوقيع في دفتر الحضور. هذا ما يجعل لنقابة المعلمين معنى ضروريا وملحا، فلا يمكن أن تحاسب الوزارة مسؤوليها، ولا بد من جهة قانونية تمثل المعلم، وتحافظ على حقوقه، حيث لم يظهر دور اللجنة التي شكلتها الوزارة لهذا الغرض، فضلا عن كفايتها لمحاسبة مظان التقصير ومتابعة مشاكل أكبر قطاع وظيفي وأهمها على الإطلاق إذ هو ينوس جوهر التنمية وروحها، أعني التعليم.
ليس الانتداب وحده ما تعاني منه العملية التعليمية، فمن الطريف أن يصبح التقويم على الأداء الوظيفي تخصص منه سبع درجات فقط على المادة العلمية، والبقية من المئة درجة كاملة، تخصص لأمور شكلية لا علاقة لها بصلب العملية التعليمية. ويلاحظ أيضا تحول ما يسمى بالوسائل التعليمية، التي هي وسائل مساعدة داعمة، إلى معوقات، ترهق المعلم وتصرفه عن جوهر مهمته. الوسيلة التعليمية هي أمر اختياري، يحدده المعلم وحده، بناء على ظروف الدرس، التي من بينها الفروق الفردية بين الطلبة، واختلاف أداء كل معلم، وتفاعله مع كل درس على حدة.
ومما يدعو للتساؤل أيضا نظام المدارس النموذجية، التي يتم فيها تطبيق أحدث تطورات المناهج والتقنية، في خطط الوزارة، دون غيرها من المدارس، فمن المعلوم أن هناك مجموعة منتقاة من المدارس، تستقطب اهتمام الوزارة، ويتم تركيز الجهود عليها، بحيث تستأثر بأحدث منتجات التطوير التربوي أولا بأول، فضلا عن استئثارها بمتطلبات العملية التعليمية من وسائل وقاعات وفنيين، وتحظى بزيارات من المسؤولين ومباركة من قبلهم، وما من تفسير معقول لهذه الطبقية، إلا إذا لم يكن الطلبة والمدارس جميعا ينتمون لمظلة إدارية واحدة. هذا إذا تجاوزنا مشكلة المباني المستأجرة، مستبشرين بالخطة التي تقضي بالقضاء على هذه المشكلة، علما بأنها مشكلة متجذرة، وتتفاقم مع تزايد عدد أبنائنا الطلبة، حيث ثبت أن أكثر من نصف مبانينا المدرسية مستأجرة.
وفق الدائرة التعليمية، يشكل المعلم ونفسيته قاعدة العملية التعليمية، ويبدو أن هذا آخر ما تهتم به الوزارة، في وضع خططها، حيث لا تتم مراعاة العدالة في توزيع المسؤوليات على المعلمين، حيث تختلف الطاقة المطلوبة من المعلم، والاحتياجات التي يحتاجها ليقوم بواجبه على الوجه الأكمل، في فصل يضم عشرة طلاب، عن مثيلتها في فصل يضم أربعين طالبا. ويتعلق هذا بالفروق بين المدارس، بحسب إمكانات الوزارة، لكن هذه الإمكانات يجب ألا تهمل مراعاة وضعية المعلم، بل يجب أن تسعى لإيجاد تناسب وانسجام تكتمل وفقه الدائرة التعليمية، على أحسن وجه.
أخيرا، مشاكل التعليم أكبر من أن تتم الإحاطة بها في مقال واحد، لكنها تستحق الاستئثار باهتمامنا جميعا، كونها تتعلق بعصب التنمية البشرية، حيث ينعكس مستواها على مستوى الأجيال الفكري والخلقي، ومن ثم على رقي الوطن، على أداء الأيدي والعقول العاملة، وحتى تلك العاطلة، التي ينبغي على الأقل ألا تنساق وراء منافذ الشر، إذا لم نحسن احتواءها فيما يليق بشباب يفيض

ربما يعجبك أيضا