الطفولة الفاقدة المفقودة

الطفولة الفاقدة المفقودة

قراءة في ديوان ( انكسارات ) أسماء الزهراني :

الطفولة الفاقدة / المفقودة

بقلم / أحمد اللهيب

[email protected]

– بدءاً :

يقول الشاعر العربي الكبير  بدوي الجبل :

ويا رب من أجل الطفولة وحدها
وصن ضحكة الأطفال يا رب إنها

 

أفض بركات السلم شرقاً ومغربا
إذا غرّدت في موحش الرمل أعشبا

– توطئة ( العنوان ):

 

تستوطن الطفولة مرابع المجموعة الشعرية الصادرة حديثاً للشاعرة السعودية أسماء الزهراني والمعنونة بـ (انكسارات )، هذا العنوان الذي يحمل عمقاً دلالياً لحياة تزخر بـ ( الانكسار ) المفرد الدائم الذي كشفت عنه قصائد المجموعة، هو انكسار نابع من تجارب الحياة يختصر عددها بكلمة ( اليتم ) الساكنة في وجدانها تقول عن اختيار العنوان: حين جاء وقت اختيار العنوان ، تنقلت بين القصائد الواحدة والثلاثين، من اليمين لليسار، من الأعلى للأسفل ، من الأمام للخلف .. لم أجد ما يجمع بينها غير الانكسار، فبالإضافة إلى أنه الاسم المستعار الوحيد الذي استعملته في الانترنيت، ليس اختباء خلفه بقدر ما كان الأمر اكتشافا للذات عبره  بالإضافة لهذا السبب البسيط جدا كان وميض الأسئلة يصطدم بأشكال الفراغ من المعنى في كل الاتجاهات”. فالانكسارات تتجلى في عناوين القصائد ( صفعة ندم ، فقدتك ، يتم ، جفاف مرثية القيم )، كما تتجلى في اللغة الشعرية التي الزاخرة بألفاظ ( الحزن والألم والكآبة والإحساس بالظلم … ).

 

 

مجموعة ( انكسارات ) تضم بين جنباتها إحدى وثلاثين قصيدة شعرية، والمجموعة تصدر عن ( دار المفردات ) في الرياض، وقد قدّمت الشاعرة إهداءها إلى الأستاذ: عبد الرحيم الأحمدي صاحب الدار موحية بهذا الإهداء إلى ( الأبوة المفقودة أو الطفولة الفاقدة ) معادل ( اليتم ). القصائد تتوزع بين شكلين شعريين تعاهدهما الشعراء قديماً وحديثاً هما ( الشعر التناظري – الشعر التفعيلي ) وإن كانت غالب النصوص تنحى منحىً تناظرياً إذ ضمت المجموعة تسعة عشر نصاً تناظرياً، واثنتي عشرة قصيدة تفعيلية. والقصائد التناظرية لا تتجاوز البحور المعروفة في الشعر العربي القديم ، فنجد سبعة نصوص من الكامل وأربعة من البسيط ، وثلاثة من الخفيف ومثلها من الرمل ومجزوئه وواحدة من الوافر وأخرى من الطويل. وهذه الأوزان شائعة الاستعمال في الشعر العربي؛ مما يؤكد محافظة الشاعرة على إرثها الأدبي وعدم تخليها عن القيم الفنية المعروفة فيه. والنصوص التناظرية في مجملها-أيضاً – تأتي قصيرة النفس فأطولها قصيدة ( همهمات) إذ بلغت ثلاثة وعشرين بيتاً بقوافٍ متعددة، وقصيدة ( ما العيد ) بعشرين بيت بقافية واحدة. وقصر القصائد مما يساعد الشاعرة على البعد عن تكلف الصيغ الشعرية المعروفة والعبارات والتراكيب المتعاورة في الشعر العربي القديم، وعلى الرغم من ذلك فقد جاءت بعض الأبيات استحضاراً (تبادلاً لفظياً) لأبيات قديمة أو تراكيب معهودة. تقول :

بأي لسـانٍ أم بأيّ بنـانِ              أترجم حزني واضطراب كياني.

والقصائد تخلو جميعها من أي ترتيبٍ زمني أو من أي إشارة تاريخية لكتابة أي نص،أما الزمن التاريخي لكتابة القصائد فالشاعرة تقول عن عمر قصائدها:  عمر القصائد في الديوان يمتد لأول سنوات الجامعة، حين كنت أتساءل عن الشعر، عن هذه الطرقات الناعمة التي لا تعرف فن الاستئذان، قبل أن تتطور الأسئلة وتنخر طبقات الروح حتى آخرها بين عامي 1414 و 1425هـ “.

–الفضاءات الدلالية :

 

تتوزع قصائد المجموعة على فضاءات دلالية متنوعة تنبثق من تجارب حيوية خاضتها الشاعرة، وتمتاح من رؤى كونية تتجاوز الواقع المعاش إلى العالم من حولها ، فهي وإن غلبت عليها تجاربها الخاصة تحاول أن تتعانق مع قضايا وطنها وأمتها بشكل عام . ومن ثم يمكن أن نوزع تلك الفضاءات على النحو التالي :

1- الطفولة الفاقدة :

 

يشكل الفقد / اليتم في حياة الشاعرة ظاهرة تتجلى في قصائدها من خلال عنوان بعض النصوص كما أشرتُ سابقا،ً أو من خلال القصائد نفسها، ولعل هذا الشعور الإنساني الطاغي ألماً وحزناً باحثاً عن دفء المشاعر الإنسانية جعل الشاعرة تبحث في محيطها الاجتماعي عن أبوة تعوض فقد أبوة النسب فكان الإهداء إلى الأب الحاني الأستاذ : عبدالرحيم الأحمدي .

 

ومظاهر الطفولة الفاقدة لحنان الأب وعاطفة الأم تتكشف للقارئ في عدد من النصوص ، فالشاعرة في قصيدة ( فقدتك ) تصدرها بقولها : في رثاء والدي رحمه الله تعالى :

فقدتك والمطامح تزدهيني
بأن ينأى عن العينين وهَنُ

 

وبين جوانحي أملٌ يلحُ
وينقشع الونى جنح فجنح

ويتضح من مجرى القصيدة أن الشاعرة ما فرحت بانقشاع آلامها وتحول حياتها إلى حياة أخرى تمتلئ رضىً وحبوراً حتى ألمت بها مصيبة فقد والدها – رحمه الله -، وهي المرأة التي ما كاد جرح موت والدتها يندمل حتى انتشى الجرح مرة أخرى بفقد والدها . تقول :

وقلبي لم يزل لفراق أمي
وإثركما يسافر بي حنيني

 

مديم الوجد لا يثنيه نصح
وكف الشوق تكتبني وتمحو

والشاعرة هنا تعيش ( طفولة فاقدة ) لعاطفة الأبوين وحنانهما، فالإنسان مهما بلغ يشعر دائماً أنه بحاجة ماسة إلى والديه، ووجودهما في حياته يبدو أمراً ملحاً له، فهو يبتهج في احتضانهما صباح مساء اقتراباً إلى الله ببرهما واستجابة للأمر النبوي في قوله عليه الصلاة والسلام ( رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه من أدرك والديه أو أحدهما ولم يبر بهما) أو كما قال – عليه السلام – .

 

وفي محيط هذه الدلالة تأتي قصيدة ( يتم ) دالة على الحنين الدائم الذي ينتاب جنانها شوقاً لأمها المتوفاة – رحمها الله -تقول الشاعرة :

كانت لنا بالأمس روح الخاطر
أمي ! همست، فلم تجب، فهتفت يا
ما بال قلبك لا يجيب كأنه

 

واليوم ذكراها هجير الذاكر
أمي، وضجت بالنداء محاجري
لم يستجب يوماً لهمس مشاعري

وعلى الرغم من أن هذه القصيدة لا تتجاوز ثمانية أبيات فقط ، إلى أن لفظ ( أمي ) ورد فيها ثلاث مرات، بالإضافة إلى الضمائر ( كِ ، تِ، ي) المتصلة العائدة على لفظ ( أمي )، ولعل في ذلك دلالة واضحة على مرارة الفقد والحاجة إلى أحضان الأم الدافئة؛ ومن هنا يتراوح نداء الشاعرة لأمها بين ( الهمس ) الصادر عن حرقة، حتى إذا لم تجب برز ( الهتاف ) لعلها تسمع، ولكن لا مجيب، وأنى لها ذلك !. ومن ثمّ تأتي التساؤلات المرة الحارقة في قصيدة ( سهد ) قائلةً :

أماه كيف تركتِ بيتاً عامراً
فالبيت قبر- في غيابك- موحش

 

وحواكِ قبر في ظلام ترابه؟
والقبر منك يموج في أطيابه

ويتضح من خلال هذين البيت ، كيف أصبح البيت قبراً مظلماً بفراق الأم بينما حل طيبها في القبر في نظر الشاعرة، إنه مقابلة طريفة، وإن كانت هذه المعاني مما شاع وكثر بين الشعراء. كما يتجلى في القصيدة التجاء الشاعرة إلى ربها وإيمانها العميق بالقدر مادةً يديها إلى الله – سبحانه وتعالى – قائلةً :

يا رب أكرمني بصبرٍ غامرٍ
وأظلنا في ظل عرشك ساعةً

 

وارحم فؤاداً مثقلاً مما به
نلقى الحبيبة في كريم جنابه

وفي قصيدة ( لا تسل عن أرقي ) يتجلى هاجس الطفولة الفاقدة لحنان الوالدين ، وحين وجدته في شخص (قام مقام الأب ) رعاها وعطف عليه لم يترك لها الموت وقتاً كافياً لتسعد بذلك، وتأتي القصيد بشكل انسيابي تحمل عاطفة متدفقة بشكل واضح ، ساعدها على ذلك الإيقاع المتسارع في بحر الرمل، تقول متسائلة وقد أضاعت طريقها بعد أفلتت يدها يد من دعاها ابنته :

كيف أسلو من دعاني ابنته
مدّ لي من طاهر الإحساس بسـ

 

واحتوى حيرة فكري المرهقِ؟
ـتان حبٍ في زمان النزق

ويتضح من هذه النصوص في هذا الفضاء الدلالي ( الطفولة الفاقدة ) ظاهر الحزن العميق على فقد والديها، فأضحت الشاعرة تبحث في محيطها عن ذلك الحنان المفقود وذلك الحب الأبوي، حتى إذا تجلى أمامها لم يسعف الوقت روحها أن تستكين إلى مرفأ آمن ملؤه الحنان والرحمة، وتبدو ملائمة الوزن الشعري هنا وهو (الرمل ) ذي التفعيلات السريعة المتقاربة الإيقاع مع الوضع النفسي للشاعرة، وكذلك سرعة الأحداث التي مرّت بها؛ مما جعلها تقف مشدوهة أمامها .

 

2- الطفولة المفقودة :

 

يأتي هذا الفضاء الدلالي استكمالاً للفضاء السابق، غير أنّ الوجهة تحولت، فحين كانت الشاعرة تبحث عن أمها وأبيها اللذيْن رحلا إلى الدار الآخرة ، بدأت تبحث عن أطفالها، لترسل لهم دفئها الصادر من أحضانها، ولكي تعوض لا يشقى أبناؤها بما شقيت به، غير أنّ الأقدار أبت إلا أن تذيقهما من الكأس نفسها التي ذاقتها ولكن بأسلوب آخر مختلف ، فالأم / الشاعرة تحرم من أبنائها لظروف اجتماعية ألمت بها. ومن هنا تأتي قصائد في مجموعتها ( انكسارات ) لترسم حنينها الدائم لابنتها ( الشيماء ) ، تقول في قصيدتها ( مسافرون في القلب) مخاطبة ابنتها بحرارة :

شيماء ، لا، لا تلوميني فلست أنا
ولستُ من تسرق البسمات جفوته

 

من أبدل الحلم في عينيك بالحزنِ
وكيف والبسمات الغُرُّ تأسرني

وفي القصيدة امتداد لمخاطبة ابنها الذي لا تصرح باسمه فيها قائلةً :

وأنتَ يا أملي في ليلتي وغدي
يا من إذا صاح ملتاثاً بخطوته

 

حبيب قلبي في سري وفي علني
“ماما”، لدنياً من الأحلام يحملني

وتتجلى في القصيدة معاني الحزن والألم لفراق أبنائها، وكيف أصبح الدمع حارساً لجفنيها اللذين لم ينعما بالنوم منذ فراقهما، ومن ثمّ يبرز أسلوب الاستفهام الموحي بمرارة الفرقة وعذاب البعد عنهم ، ولا شك أن صياغتها التساؤلية والاستفهامية تشرع آفاقاً لحنين المشاعر واستفزاز الوجدانات الخامدة، وتمتلك طاقات توحي بالشوق العارم لهم:

أحبتي أين أنتم عن مرابعكم
أسائل الغيم عنكم حين يعبر بي
هل يسألونك عن حضن يتوق له

 

أحباب قلبي سياط الشوق تلهبني
يا غيم! هل يسأل الأحباب عن شجن؟
هل يبصرون انعكاساً فيك من وهني؟

وتتكشف مظاهر ( الطفولة المفقودة ) في قصيدة ( نجوى ) حين تخاطب الشاعرة صغيريها قائلةً :

صغيري قد يحنو الزمان وقد يقسو
فلا تهنا إن فرّقتنا صروفه
لقد مزقوا ثوب الطفولة عنكما

 

وينكأ من أوجاعنا قدر ما يأسو
أعيذكما أن يستبد بنا يأس
ليكسونا من بعده الحزن والبؤس

فالشاعرة في هذا النص تقذف بحمم بركانية من مشاعرها وأحاسيسها الموجعة بفراق ابنيها الصغيرين ، وهي تستخدم أسلوب الجمع ( مزقوا )هنا في إشارة واضحة إلى الأيادي الخفية التي عملت من أجل إبعادها عنهما، ولذا فهي تتناص مع الشاعر الجاهلي المعروف طرفة ابن العبد في قولها :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة                    على النفس لكن لن تذل له النفس.

وكأنها وجدت فيه معبراً حقيقياً عن حالتها وكيف آلت بها ظروف الزمن .

 

أما قصيدة ( افتتان ) ففيها انحراف دلالي يخالف النصين السابقين ، حين تخاطب الشاعرة ابنتها الصغيرة بأسلوب جميل يبعث الأمل الكامن من خلف الأحزان ، ولذا تصبح هذه الطفلة الصغيرة ( شيماء ) كما تقول الشاعرة :

أنت عيني إذا خبا نور عيني

 

وجنوني جفونك الوسنانة

 

 

ولم تقتصر الفضاءات الدلالية عن الشاعرة على هذين المحورين إلا أني لمست ظهورهما بشكل واضح، فالشاعرة تغوص في أعماق ذاتها ، وتبحر في خارطة أمتها تحاول أن تشارك في قضاياها وأن تجاهد بقلمها ، يتجلى ذلك في قصائد مثل ( مرثية القيم ) ويتضح من عنوانها اعتراضها على المبادئ المتبعة في النظام العالمي الذي يبيح له ما يحرم على غيره. ونجد في قصيدة ( ما العيد ) روحاً تتقافز مع أحداث العراق وتترنم شجناً حزيناً بمآسيهم وما يتوالى عليهم من حروب ونكبات .

 

–الملامح الفنية :

 

– اللغة الشعرية :يمكن أن نسجل ثلاث مظاهر مهمة لدى الشاعرة من حيث اللغة :

تتجلى قدرة الشاعرة اللغوية من حيث المخزون اللغوي الجيد الذي يوحي للقارئ بمدى قدرتها على توظيفها كيفما تشاء، وعلى الرغم من سيطرة القصيدة العامودية / التناظرية عليها إلا أنها استطاعت أن تنوع في تراكيبها بعيدة عن التكلف أو استحضار الصيغ الشعرية المستهلكة أو الأساليب المتداولة فاستطاعت أن تكون ثرية في معجمها مما يزيح الملل عن القارئ، على الرغم من سيطرة الفضاءات الدلالية عليها .

استطاعت الشاعرة أن تبتعد عن اللغة التقليدية المتكلفة فلم تبحر في معاجم اللغة لتنبش من أضبارها لغة صعبة تحيل القارئ للبحث والتقصي، محاولة الاقتراب منه ما أمكن ذلك بعيداً عن التكلف .

تتراوح لغة الشاعرة بين لغة واقعية تكشف جوانب حياتها كقصيدة ( نجوى) ، ولغة رومانسية حالمة تبحث عن أملها في الحياة كقصيدة ( همهمات )، ولغة رمزية تحيل إلى معانٍ ودلالات ذات بعد إيحائي كقصيدة ( في انتظار الذي لا يجيء) ، دون الكشف أو الوضوح . وهي مع ذلك لغة بسيطة التركيب، بعيدة عن أن توجد علاقات شعرية متميزة، ولكنها تمتلئ بالرمزية الخفيفة اللذيذة على الفهم .

 

– التناص

 

يمثل التناص إحدى الآليات الجمالية التي تحيل المتلقي إلى نصوص سابقة أو أحداث ماضية، وهو في أقل مدلولاته وجود علاقة بين ملفوظين، ولقد برز هذا المصطلح على يد جوليا كرستيفا. ومن بعدها تناول عدد من النقاد والباحثين التناص، وحاولوا أن يربطوا بينه وبين بعض  المصطلحات النقدية في تراث العرب النقدي مثل ( السرقة ، والمعارضة وغيرهما ) .

 

 

وفي مجموعة انكسارات تبرز ظاهرة التناص بشكل جميل بعيداً عن التكلف أو الاعتساف، ففي قصيدتها (افتتان ) تستحضر الشاعرة الثيمات الأساسية لأسطورة السندباد ، تقول مخاطبة ابنتها شيماء :

كيف أهديك للسعادة أرسيـ
ليوافيك السندباد أبيٌّ
فيك يلقي مرساة عمرٍ تقضى

 

ـكِ على برّ شاطئ الحب دانة
فيك ينسى كنوزه الرنّانة
في بحار الضياع يرخي عنانه

فمكونات أسطورة السندباد هي ( الضياع ، الانتظار ، الإبحار ) تتجلى في هذا المقطع على الرغم من أن الشاعرة أحدثت انحرافاً دلالياً فيها لتصور مدى ما تمتاز به ابنتها من ( افتتان ) جعل السندباد يحور عن متابعة رحلته فيودع ربانة ويشيد قصراً من الهوى لها .

 

ومن المكونات ذات الإحالة النصية الأسطورية نجد في قصيدة ( جفاف ) ثيمات تتقاطع في دلالتها مع أسطورة العنقاء حين تحترق فتكون رماد فتبعث من جديد، تقول الشاعرة مخاطبة الصمت :

لا تخش يا صمت /  إني بقدر حنينك للنور فيّ

أحنّ إلى الانغراس بجوفك / كي أتشكل خلقاً جديداً

عصياً على مدركات الزمن .

ومن مظاهر التناص لديها، نجد توظيفها لدلالات الآيات القرآنية أو ألفاظها اقتباساً مباشراً وهو يساعد الشاعرة على  أداء المعنى، والاقتراب من القارئ بالفكرة التي تريد . نجد ذلك في قصيدتها ( في انتظار الذي لا يجيء ). تقول :

الثواني التي غرست نصلها في ضمير المساء / أثمرت وخزةً في عيون النهار

ارتوت من جنون الجوى / فاستوت قامة الوجد ماءٌ ونار

أصلها ثابت في تخوم الحنين / فرعها في سماء الوجع …

فالقارئ هنا يستحضر قوله تعالى : أصلها ثابت وفرعها في السماء ). ويلاحظ هنا انسيابية في أداء الصورة بحيث لا يشعر القارئ بأي قلق في التركيب أو ركاكة في الأسلوب. ومثل ذلك توظيفها لقوله تعالى   وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً ) تقول الشاعرة في نص ( معبد الحرية ) :

… وكيف يجيء المخاض بها / إلى جذع غرقدة

هزّت الجذع / فاساقط الوهم

كيف رأت طفلها جسداً لا خوار له .

ونجد في قصيدة ( حوار على إيقاع الخطيئة ) إحالة نصية إلى قوله تعالى ( ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ) حيث تقول :

لا تقولي جننتِ / فقد جن فيّ السكوت

لا تقولي هو الطيش /بل هي أسئلة تصطلي باعترافات حلم يموت

يستغيث بي الحلم / تهتف بي القرية الظالم أهلها .

ومن نماذج التناص لديها -أيضاً – الإحالة النصية الشعرية ، وقد أشرتُ سابقاً إلى قول طرفة بن العبد :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة             إلى المرء من وقع الحسام المهند

وكيف استطاعت الشاعرة أن توظفها في فراقها لابنيها مشيرة إلى الأيادي الخفية التي سعت من أجل ذلك . ونجد الملمح نفسه في قصيدة ( المتاخم للغيم ) في إشارة نصية إلى قول امرئ القيس :

وليل كموج البحر أرخى سدوله
فقلت له لمّا تمطى بصلبه
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ

 

علي بأنواع الهموم ليبتلي
وأردف إعجازاً وناءَ بكلكلِ
بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فهي تقتطع من هذه الأبيات أن يخدم الفكرة التي تتمحور حولها القصيدة، وكأنها تختصر ما أطال امرئ القيس بوصفه قائلة :

ألا أيها الليل أرخ سدولك / نؤ بسوادك .

ومن ذلك ما نجده في قصيدة ( رحال في وجع السنين ) ، حيث توظف القول المشهور المنسوب للفرزدق :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته             والبيت يعرفه والحل والحرمُ .

فالشاعرة تقتطع الشطر الأول دون تغيير أو تحوير فتقول :

…وقوافل الناجين / تسخر من قواربه التي انتحرت على كف النزق

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

وما شغل المدى هذيانه .

ولعل الشاعرة أغفلت أن هذا الشطر هو من بحر البسيط بينما القصيدة مبنية على وزن البحر الكامل من الشعر الحر دون أن تضعه بين علامتي تنصيص.

– التكرار :

يعد التكرار ظاهرة أسلوبية بارزة في الشعر العرب، قد حظيت باهتمام بالغ من لدن عدد من النقاد. غير أني هنا لن أعرض لكل مظاهر التكرار لدى الشاعرة، بل سأقف عند ظاهرة لمحتها في بعض نصوصها، وظاهرة اختتام القصيدة بتكرار مطلعها، وقد أشارت نازك الملائكة في كتابها ( قضايا الشعر لعربي المعاصر ص 45) إلى ذلك ، وهذا الأسلوب – كما تقول نازك – ليس إلا تهرباً من الشاعر، يفر فيه من صعوبة الاختتام الطبيعي. وهو إنما يقع في ذلك التهرب تحت ضغط الشعر الحر. وليس التكرار هنا إلا نوعاً من التنويم يخدّر به الشاعر حواس القارئ موحياً إليه بأن القصيدة قد انتهت ص 46 . ومن نماذج هذا في مجموعة انكسارات نجد قصيدة ( معبد الحرية ) التي تبدأ وتختتم بقولها :

وتقبض من أثر الليل حفنة / وتعجنها برماد القرون التي

– زعموا – / غيّبت وجه ليلى وضحكتها في تراب الظنون .

 

ربما يعجبك أيضا