الذات والكتابة

صحيفة مكة

الأحد 12 جمادى الآخرة 1435 – 13 أبريل 2014

الاختيار والإرادة هما ما يصنعان الحياة الاجتماعية البشرية، بكل صورها الممكنة، أو بإمكان التجدد والتعدد والتحول في نسيجها، وليست الحياة في كل تعقيداتها إلا صورة عن الذات البشرية. وقد بنيت الذات الإنسانية على الاختيار، وكان على أبينا آدم أن ينسى، ويختار أن يأكل من الشجرة، حتى يرث أبناؤه هذه المسؤولية من بعده، مسؤولية الإرادة التي لم تتحملها السماوات والأرض، وحملها الإنسان. وهي تكتسب بميزتي الاختيار والإرادة ممكنات لا حصر لها من التحقق، وبذلك تكون في طبيعة تشكلها بنية كتابية/نصية، وليست معطى جاهزا (وأنا أتحدث عنها في مستوى الإدراك البشري)، ولعل ذلك من أعظم ما يميزها من بين المخلوقات.
وأول ما يطالعنا من السمات الكتابية للذات سمة الاختلاف، فهي لا يمكن أن تتكرر حتى ضمن محيط وجودها الفردي، إذ الإنسان وحده من بين المخلوقات يملك القدرة على الاختلاف عن ذاته. وهي ذات غير قابلة للتحديد، لأن القبض عليها في حالة ساكنة أمر غير ممكن، كما أي علامة (مفتوحة). وهي موجودة كـ(أثر) يتم بناؤه وتشييده بواسطة التوقع والتذكر، بلا أي جدوى في تحديد كيان موحد ثابت يمكن أن يكون معادلا لما هي عليه الذات. وتجمع الذات الإنسانية المتناقضات، وتتشظى بمرونة على مختلف المواقف، وهي انعكاس للمجتمع وتناقضاته، مثلما المجتمع ناتج طبيعتها المتناقضة.
يستمر الإنسان في تجاوز نفسه، في تحرك مستمر باتجاه البحث عن حقيقة ذاته ومعنى حياته، عبر الاختلاف والتمرد على الذات التي تسعى للقرار دون جدوى. وإذا انتهت إمكانات الاختلاف فإن الذات تعيش نوعا من التوقف عن الوجود، أيا كان معنى النهاية، وأيا كان وعي الإنسان بها. ولقد ابتكر الإنسان كل الوسائل التي يولّد بها ذاته، ويضاعف ممكنات وجوده، فكان السرد أعظمها، إذ في السرد وضع الإنسان تاريخ خياراته، وسرب أحلامه عبر الأجيال، كتابا مفتوحا لحياة لا تعرف الموت، وتفسيرا لمعنى الخلود الذي منحه الله تعالى لآدم وذريته من بين خلقه.

ربما يعجبك أيضا