أسبوع في قفص الأسد

شيء ما خرج من داخله .. انفجار ضوئي قوي ، تصحبه طاقة هائلة من الصوت .. كان هذا آخر ما يذكره قبل أن يجد نفسه في عرين الأسد ..
ولأسبوع لم يكن الأسد ينظر إليه .. الأسد يمارس الصمت بدهاء ، والأساطير تنسج المخاوف في مخيلة مندفع .. نوع جديد من الطبقات بدأ يتكون حول روحه ، لكنه هذه المرة قاومها .. يبدأ جولة جديدة من الحرب مع طبقة جديدة كل يوم ، المارة في الخارج من فوهة صغيرة يجتهدون في رصف المزيد من هذه الطبقات ، بعضهم متلهف لمعرفة نتائج أول تجربة في مواجهة الملك ، بعضهم متعاطف معه ، بعضهم شامت ، لكن أكثر هؤلاء قربا من القاع هم المتطفلون ، المعتاشون بآلام غيرهم ، كنوع من العلق .. كان أسبوعا مرهقا بالنسبة لمندفع ، كان يقضي يوميات مملة ، وروتينا قاتلا ، لا يخفف من وطئه إلا تأكده من كونه وضعا مؤقتا ، مؤقتا بأي الطريقتين : فإما أن يستعيد بيته المسلوب ذات نهار تطلع فيه الشمس ، أو يصادفه ملك الغابة في يوم بؤسه فينهي توقيت إقامته بطريقة ما ..
………………………..
لم يكن يعتقد حين ارتاد هذه الغابة ومنح حق اللجوء المؤقت لأراضيها ، أن طباعه لم تهذبها الإقامة ثلاث سنوات في العراء ، يكتوي بالهجير ، ويرتجف في الزمهرير . كان الأمر أن طبقات من الجلد المحترق بفعل الشمس غطت كثيرا من معالم روحه ، فأضحى ميت الأطراف يابسها ، ولهذا لم يستطع التأقلم سريعا مع ما ظهر منها فجأة حين سقطت كل الأغلفة ، في زاويته الضيقة التي منحت له من قبل الزعيم ..
الزعيم ، شخصية تجمع بين الأسطورية والواقعية ، فهو أسد ضخم ، لا يستطيع أحد تثبيت عينيه في وجهه المتجهم ، لكن لم يتح لأحد فرصة اختبار وقع ضخامته على الروح ، والسكان هنا يحمدون الله ان تلك الفرصة لم تتح ، فمن ذا يريد أن يكون تجربة لفتك أسد ، أو غضبة ملك ؟
ورث الزعيم نصف عادة لأحد أجداده المهووسين بالعظمة .. فكان له يوم بؤس ، لكن أحداً لم يتحدث عن يوم نعيمه .. هكذا تناقلت الأجيال أسطورة الملك الأسد .. المحاط بهامة ضخمة من شعر كثيف لا يمكن قياس ما تخبئه تحتها أو حتى التنبؤ به .
…………….
في عزلته ، انشغل مندفع بتأمل احتمالات خروجه من زاويته الضيقة ، ويوما بعد يوم كانت الطبقات المحترقة من جلده تتساقط ، وتحت الغطاء السميك من ورق اليقطين الأخضر الرطب كانت أطرافه تستعيد الحياة .. بدأ هذا يحدث حين بدأت تتشكل في داخله صورة للوطن .. لم تكن صورة قادمة من ذكرياته ، كما لم تكن كليا من صنع مخيلته ، كانت مزيجا بين هذا وذاك ، تشع بوهج غريب ، تعلق به مندفع .. وصار مصدر إلهام قوي لما يبدعه من ألحان أغرم بمشاركتها بيته القديم ، وحملها معه في رحلته إلى المجهول .. إلى ما وراء الحدود .. وكان هذا أمرا يبعث الراحة لولا ما بدأ ينتاب مندفع من أحلام مزعجة وكوابيس ، كانت الجنة التي خرج من بيته بحثا عنها تراود أحلامه ، وفي وسط النشوة يخرج من بين أغصانها طيور جارحة تتناوشه ، وتمضغ أطرافه دون أن يموت .. كان يصحو على وقع الرعب الذي تخلفه هذه التجربة..
اسبوع أمضاه مندفع في عرين الأسد .. لم يتغير روتينه في شيء ، سوى ظهور مشكلة الحدود من جديد ، إنما داخل نفسه هذه المرة .. ترى هل يقاس الألم بعد اللذة ، باللذة بعد الألم ؟ وحيدا في البيت الشاسع البرودة ، كثيرا ما تساءل مندفع عن ذلك . في الليالي الطويلة الباردة ، كان يتخيل ما وراء الأسوار ، أسوار مدينته الشاسعة .. سمع عن جنة مزعومة ولم يسمع بأن أحدا وجدها ، جنة تقبع في خارج الحدود ، ولأن الإنسان عدو ما يجهله فنادرا ما يجرب أحد الاقتراب من الحدود ، الألم وحده ، الهروب من ألم أكبر من الخوف ، هو ما يجعل بعض النادرين يجربون الخروج .. ولأنه لم يعد أحد بعد خروجه فلم يتح لمندفع أن يسمع بتجربة سابقة يهتدي بها .. وكان يدخل الحدود أشخاص غرباء ، عددهم يكافيء الخارجين ، لكنهم ليسوا هم .. خرج مندفع برغم كل هذا ، وظل ثلاث سنوات في العراء ، قبل ان يصادف هذه الغابة الكثيفة ، ويلمحها عن بعد .. لمح على أبوابها بضعة كائنات مشردة لا تختلف عنه كثيرا .. يصطفون بانتظار شيء ما ، عرفه بعد السؤال ووقف في الصف .
……….
اليوم يلمح مندفع الزعيم للمرة الثانية ، لكنه في هذه المرة لم تجتحه الرجفة التي تملكته في المرة الأولى ، شعر أن شيئا ما في أعمق أعماقه بدأ يتحرك .. الرجفة هذه المرة جاءت من أعماقه ، من نقطة سحيقة في الداخل .. الزعيم يدور حول القفص ، قبل أن يقف بمواجهة مندفع حانيا رأسه ليتجنب الاصطدام بالسقف ..
بينما يتمطى الملك الأسد في خطوات طويلة نحوه ، ألف فكرة راودت مندفع خلال دهر من الصمت فصل بينهما .. تخيلات لأنياب فاتكة ، واحتمالات لما يمكن أن يحدث وما لا يمكن حدوثه ، قبل ان يفتح الزعيم فمه ليبتسم .. ولكن بلا أسنان ….

أسماء الزهراني

ربما يعجبك أيضا