أقنعة الموت

رائحة الموت بدأت تتخللني منذ فترة ليست بالقصيرة ، لكنها اليوم أخذت تزاحم هواء الحياة في رئتي ، وتفوح من فناجين القهوة ، وغبار الأوراق القديمة ، التي أتنقل بها بين المكاتب . أتذكر عندما جاء بي خالي إلى هذا المكان ، مشددا علي أن أنسى كل ما ارتص على رفوف مكتبتي ، وقصائدي التي تفسد علاقتي بالكبار .

  • القضاة ليس لديهم وقت يضيعونه في نصح المسرنمين أمثالك .
    وعملا بنصيحته وتوفيرا لوقت القضاة ، تركت آخر شطر كتبته في صندوق مهمل في الذاكرة ، إمعانا في إثبات القطيعة بين زمنين . كنت قد تخرجت بتفوق ، وبثقة بدأت طرق أبواب العمل ، لم يكن التعليم خيارا جيدا لمن كان في مثل تخصصي . الطقس وتقلباته ليس مادة يُهدَر عليها راتب معلم ، لذلك اتجهت الى الجهة التي أملتُ ذات حلم أن أمارس فيها هوايتي القديمة . أن أبحر في السماء ، أشاكس مزاجها العكر ، أوألتقط لوحات فرح لها حين يصفو ذلك المزاج الصعب . أكون مبالغا لو ادعيت الصدمة أو حتى المفاجأة ، حين لم يرض أحد بمجرد النظر إلى سيرتي الحافلة ، لكن مع قائمة أبحاثي وتوصيات الآساتذة المعروفين في هذا المجال توقعت أن يختلف الأمر . و لم يختلف الأمر ، فتأقلمت مع ذلك ، كما تعلمت على مقاعد الدراسة أن أتأقلم مع مفاجآت الطقس .
    يومها جاءت امرأتان تجرجران جسدين مهترئين ، تحاولان النفخ في قربة قضية ضد أخ سكير ، يمتهن تكسير الأطراف . سمعت صراخ إحداهما من داخل القاعة الصغيرة : هل تنتظر أن آتيك بتابوت تتكوم فيه واحدة منا دليلا ماديا على الجرم المشهود ؟
    وفي الخارج كان رجل في عنفوان الشباب ، مفتول العضلات ، عرفت من همهمة الجالسين أنه ينتظر توقيع القاضي على حكم بقطع رأسه ، في أقرب جمعة . صرخة مكتومة حبستها بصعوبة ، خربشت قاع حنجرتي : يا الله ! كم قناع تدخر أيها الموت في زوايا هذا المكان ؟

اليوم موعد استلام أول راتب لي ، صحيح أنه تأخر ثلاثة أشهر ، لكنه جاء أخيرا . جاء في وقته المناسب . في الحقيقة مرت أوقات كثيرة مناسبة . عندما حضر موظف شركة الكهرباء الشهر الماضي ، ليقطع التيار عن منزلنا كان وقتا مناسبا . وعندما احتقنت مرارة أمي ، واشترط المستشفى الحكومي الوحيد الذي اقتنع بحاجتها الى جراحة عاجلة ، أن نحضر جهاز التنفس على حسابنا ، كان وقتا مناسبا أيضا . أما عندما أجهضت أختي ، وصبغت فراشنا الرخيص باللون الأحمر، الذي تتشاءم منه أمي بشدة ، كان ذاك هو الوقت الأنسب على الإطلاق . كانت أختي تلك هي مفتاح تعرفي على هذا المكان ، مثلما يقولون : رب ضارة نافعة . انتظرَتْ إلى أن فقدتْ بعض أسنانها . لتقتنع والدتي أن حياتها في خطر . ولما لم يفلح الكبار في إقناع الجلاد بتسريحها بإحسان ؛ أخذتني أمي وأختي إلى هذا المكان . يقال إنه ساحة للعدل ، مع أني لم أر صورا من الظلم تتجمع أكثر مما تفعل في ساحة العدل هاته . كنت وقتها أنجز امتحانات العام الجامعي الأخير ، وأودع الجامعة التي شهدت آخر جولاتي في ساحات التفوق . أترك أمي وأختي في المحكمة ، وأذهب أنا إلى الجامعة ، أؤدي امتحاني ، وأعود لأجدهما تنتظران الدور الذي لن يأتيهما أبدا ، ليدخلا على موزع أرغفة العدل بالتساوي هنا .
بدا الأمر تلك الايام رتيبا في منزلنا : أمي وأختي تعدان بعض ما يجذب ربات البيوت من أطباق الحلوى ، ليبيعها صاحب البقالة المجاورة ، فيرسل الأطباق آخر الأسبوع ، بداخلها غلة الأسبوع ، بعد أن يقتطع نصيبه منها . وأمارس أنا مهمة البحث عن عمل من الصباح حتى المساء ، وأقضي أواخر الأمسيات أتبادل ثرثرة اليأس والإحباط مع ثلة من مرتادي الأرصفة ، يتوافدون على مدينتنا الجميلة من القرى النائية التي لا قطاع خاص فيها ولا عام . وأتابع مواعيد أمي وأختي في المحكمة الكبرى بمدينتنا ، لم تكن مواعيدها مرهقة لأنها تأتي كزخات المطر في صحراء قاحلة ، إلا أنها بعكسها : تلك تنذر بسيل ، وهذه تغرقك بجفاف الانتظار للاشيء . الى أن جاء ذلك اليوم : عدت إلى البيت والمرأتان تنتحبان ، والطفل الصغير مذهول يراقبهما

  • أين كنت كل هذا : صرخت بي والدتي ، المفتري جاء مرة ثالثة وأنا والولد في السوق و …. .
  • طيب ، ماذا أفعل يا أمي غير أن أستدعي الشرطة لترى كيف لم يلتـــزم بأي تعهدات هذا الرجل ؟ حين شرعت في قتله ذلك النهار صرخت وجمعت كل من طاله صـوتك ، قولي لي ماذا أفـعل الآن ؟ هل أعيدها له و نرتاح من همها وهمه ؟
  • حسبي الله ونعم الوكيل /أنت ما يهمك إلا نفسك

خرجت أنوء بذلك السخط ، وبدموع فيصل ، لأثبت الواقعة للمرة الثالثة ، ومن يومها تقلصت خياراتي في الحلم . اتصلت بي شركة تدير مصنع مرطبات ، عرضت علي عملا بدوام كامل من مطلع الشمس الى مغربها . مقابل كل مال العالم لم أكن لأترك أختي يعبث بكرامتها هذا الهمجي ، خاصة أن علامات الحمل بدأت تصهر وجهها المصهور سلفا . لكنه على أي حال لم يكن مال العالم كما صورت لي حميتي لأختي ، كان مبلغا لا يكاد يكفي لتكاليف علاجها في أرخص عيادات العقول المتعبة .


لا بأس يا فاطمة : أخيرا نلت حقك في الحياة ، مقابل تنازل خطي وقعته أمي عن فتات ما تركه لها والدها لأخيها . خالي الذي رق لحالي وتوسط لي عند صديقه القاضي ، لأعمل تحت نظره ، كان هذا المكان المناسب لتهدئة قلبي كما أخبر خالي أمي بعد أن ازدادت احتمالات انزلاقي باتجاه الانفجار على عقبة الإحباط . يومها سلم خالي القاضي ثمانين ألفا : ثمن رأس أختي ، وتسلم وثيقة تثبت تنازلنا له عن كل حق لرؤوسنا في المستقبل .
على أي حال سأتسلم اليوم أول راتب لي ، ولا بد من احتفال صغير ولو كان بين أسوار القلب المكدود . ترى هل يُسمَح للفرح أن يدخل هذه القاعة ؟ حيث تتدحرج الرؤوس المحكوم عليها بالاعدام ، إما بسيف الجلاد أو بسيف المجتمع ؟
سأقتنص الفرحة إذن خارج هذا المبنى ، ربما في بيت جارنا الذي أدين له بإنقاذ أختي تلك الليلة النازفة ، ربما في بقالة الحي حيث تنام فاتورة قلقة باسمي منذ شهور ، أو ربما لدى البنشري الذي أدين له بأربع عجلات هي كل ما يحرك حياتي الراكدة .
في المنزل سكبت على جسدي الماء البارد باقتصاد شديد ، وشيئا من دموع فيصل ، الذي صدمته عودتي خالي اليدين من كل وعودي له ، على امتداد ثلاثة أشهر قاحلة إلا من الحلم . اغتسلت من انتظار يومين مضنيين ، ومن حلم بفرحة قصيرة ، أيقظني منه زميل ، أخذ كل ما عددته من الأوراق في يدي قبل لحظات ، باستثناء ما حسبناه سويا بدقة لطعام أمي وابنتها وحفيدها هذا الشهر . في الصباح كنت في طريقي إلى القاعة الصغيرة ، تشاركني الطريق امرأة تسحب رجليها وبطنها المنتفخ وثلاثة أطفال ، لم ينطفيء النعاس في عيونهم . ورجل مفتول العضلات يحيط به جنديان وقيدان في يديه ورجليه . انتظمت خطوات الجميع في إيقاع موحد ، لمسيرة جنائزية ، إلى حيث تتمدد رائحة الموت ، وتختبيء وجوهه التي لا تنضب .

ربما يعجبك أيضا