منطق للفوضى

منطق للفوضى

القضية ، مقدمتها ونتيجتها ، أساس كل منطق إنساني … ليس اشتراك القضاء والمنطق في مصطلح القضية محض مصادفة لغوية ، فعلى أرضية القضية : المنطق هو منهج في القضاء ، وبالتبادل ، القضاء هو أوضح تطبيقات المنطق ، وأشدها حسما وقطعية . ومثلما يتعانق مع حقل المنطق دلاليا ، حين يرد لفظ القضاء يجر معه حبلا متصلا من الدلالات الثقيلة ، العدالة ، الحقوق ، الواجبات ، المساواة ، النظام …

والنزاهة الإلهية المطلقة . والقضاء باختصار ركن الحياة الاجتماعية السليمة ، وقاعدتها المتينة ، لذلك كان أول انشغالات أي دولة ناشئة تحرير نظام قضائي يضبط الحركة في جسم الدولة ، ويحافظ على صحة إيقاعها وحيويته .  ولذلك كان معيار استقرار الدول منذ الأزل استقرار نظامها القضائي وفعاليته .  هكذا اتخذ القضاء في الإسلام مكانته الخطيرة ، فـ” قاضيان في الجنة وقاض في النار ” ، كانت كافية لأن يتجنب هذا الجسر القصير إلى النار كل من لا يملك الشجاعة والثقة اللازمة في إمكانيات الوفاء بهذه المسؤولية ، لأن القاعدة إن تسرب إليها الفساد واختلت اختل كل ما فوقها .

ولن يكون الحديث عن الأخطاء وصور الخلل في مؤسساتنا القضائية بالأمر الجديد ، فهي عرضة مثل غيرها من مؤسسات المجتمع للأخطاء والنقص ، لكن ما ينبغي التنبه له هو ما للمؤسسة القضائية من أهمية محورية ، تضاعف استحقاقها للمزيد من الرقابة والعناية . ذلك لأنه يفترض بأن تكون هذه المؤسسة المرجع الرقابي الأخير ، الذي تنتهي إليه خيوط كل السلطات التنظيمية ، متمثلة في امتلاكها سلطة المحاسبة والعقاب .

ولعل من أبرز صور الخلل في مفهوم القضاء في مجتمعنا اليوم ، كون ساحات القضاء علامة على المخفي والمحجوب والمحتقر من وجوه حياتنا . صار اللجوء للقضاء شرا يستعاذ منه ، لأنه ارتبط في الأذهان بالعقوبات والحدود ، مع أن هذا لا يتفق مع مفهوم القضاء في أي من الشرائع السماوية ، فضلا عن مفهومه الأوسع والأشمل في الإسلام ، حيث لم تقتصر منظومة القضاء في الإسلام على وظيفة تقدير الحدود وتقرير أحكام القصاص فحسب ، بل لقد نزلت سورة كاملة في القران الكريم للحكم بين امرأة وزوجها في قضية من قضايا العشرة الزوجية . وتتكرر في القران الكريم مشاهد متنوعة وحيوية لفعالية القضاء في وجوه الحياة كافة ، ومن ذلك ما ورد عن داوود عليه السلام وابنه سليمان ، ومن ذلك ما جاء في قصة يوسف عليه السلام وكيف جرى استعمال البرهان فيها . وقد كانت تجري أمام القضاة في العصور الإسلامية جميعا خصومات ومسائل في مختلف وجوه النشاط البشري .

ولعل هذا المنظور القاصر للقضاء _وهو منظور طاريء على الفكر الإسلامي وناتيء عن نسيجه_ إحدى نتائج اختلاط الإرث الشرعي بالموروث الاجتماعي ، بحيث أصبحا على درجة واحدة من القدسية ،  تداخلت فيها قوانين البشر مع القانون الإلهي المنزه عن النقص ، حيث عادت الدعوى الجاهلية لتقديس تراث الآباء والأجداد لتتحكم في كثير من وجوه حياتنا ، لكنها هذه المرة تلبست ثوب الدين ، واتخذت من قدسيته في قلوب أبناء هذا البلد جسرا لتمرير ما جاءت كل الرسالات السماوية لهدمه ، أعني تغييب العقل وتجميده باسم العادات والتقاليد ، بل لقد كادت هذه الآفة أن تدخل تعاليم الدين الحنيف ذاتها تحت عباءة العادات والتقاليد ، لتقتل فيه روح الاجتهاد ، وتلغي منه فعل العقل وتفاعله .

نحن نتفاخر دائما وحق لنا الفخر بأننا البلد الوحيد الذي يطبق تعاليم الشريعة الإسلامية دستورا وحيدا للحكم ، ومرجعا وحيدا للقضاء ، لكن هذا لا يجعلنا منزهين عن المساءلة ، وهذا ما يجعلنا نتساءل عن مدى فعالية هذه المرجعية الشرعية ومرونة آليات تطبيقها في مؤسساتنا القضائية ، لتحقيق الاستفادة القصوى من إمكانياتها المثالية ، كونها الدستور الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . ويكفي أن نضرب مثالا لذلك بما يصطلح عليه في كل دول العالم ، ومنظماته الحقوقية بقانون الأحوال الشخصية ، وهو قانون لا زال يفصل في مسائله في محاكمنا جنبا إلى جنب مع قضايا الرشوة والنزاعات حول الإرث ، وأحيانا القتل والاغتصاب  ، في فوضى حقوقية عامة طامة ، تجاوزتها أمم الأرض جميعا إلانا.

ألا يحق لنا أن نتساءل مثلا : كيف يمكن تفسير التذبذب الكبير في أحكام القضاة في مسائل الأحوال الشخصية المحسومة في المذاهب الأربعة ، إن لم يكن في كل الشرائع السماوية ؟ بل إن هذا التذبذب يمتد لكافة المجالات ، لا سيما العقوبات ، إذ يحكم قاض بنصف عقوبة حكم بها غيره ، وعلى الرغم من كون الفقه الإسلامي يقع فيه الخلاف في مسائل العقوبات ، لكن هل من العدل أن تكون حياة الإنسان ، آلامه ، مستقبله وكرامته مجالا لاختلاف القضاة والفقهاء ؟ والمزيد من التساؤلات تحتشد بشأن هذا القانون المبعثر في محاكمنا : هل يمتلك مرجعية ثابتة موثقة  للحكم والمراجعة ؟ وإن وجدت هذه المدونة المفترضة ، هل هي في متناول المواطن العادي ؟ وهل هي متاحة لتفعيلها وتدويرها في ساحات المحاكم ؟ ما مدى وعي المواطن بوظائف المنظومة القضائية ، وكيفية استفادته منها في تنظيم شؤون حياته وعلاقاته بالآخرين ، ووضعه في المؤسسات الاجتماعية المختلفة ؟ ولست أملك تفسيرا لهذا مع علمنا جميعا أن أقدس منطوق وهو القرآن الكريم ، قد كتب ووثق وأتيح لجميع الخلق للتفكر والتدبر ، من أعقد مسائل الوجود ، إلى أبسط شؤون التعاملات اليومية . وأخيرا ، هل سيظل المواطن محتاجا أن يعرض نفسه للتداول في ساحات المحاكم ، ويتقلب بين اجتهادات القضاة ومرجعياتهم ، ليعرف وضعه القانوني في مسألة معينة ، طالما أنه ما من طريقة أخرى لذلك ؟

إنها أسئلة مصير ، ومنطق حياة ، ينبغي إشراعها أبوابا لحراك اجتماعي صحي ، وحيوي ، ومطرد التقدم ، باتجاه تأسيس أرضية ثابتة للتطلع عبرها إلى تخطي عتبة العوالم الثالثية والثانوية ، نحو القرية العالمية غير المصنفة ، من دون أن نظل محبوسين في وهم المؤامرة ، وتضخيم قضايا الخصوصية . وهي قضايا  توظفها أطراف كثيرة ، لصالح أشياء كثيرة ، آخرها مصلحة هذا الوطن ومواطنيه ، هذه الأمة وشريعتها . متناسين أن أهم ما يميز الإسلام عن كل الديانات أنه أكثر الأديان تشجيعا للعولمة ، فهو يؤسس لها ، ويشرّعها ، وينظمها ، وفي طريقه يلغي كل الحساسيات العرقية ، والعنصريات ، وعقدة الخوف من المجهول / الآخر وبحسب مقولة عن نبينا صلى الله عليه وسلم : الحكمة ضالة المؤمن ، أنى وجدها فهي له.

ربما يعجبك أيضا