روحها الموشومة به!

في”روحها الموشومة به”: سيرة أنثى تواجه فعل الوأد بسرده!

الكتابة في أحد أهم تعريفاتها هي فعل وجود بوساطة اللغة، والتأويل مرة أخرى محاولة لتحقيق وجود مقابل عبر القناة ذاتها، عبر اللغة، وفي منطقة بين الطرفين تتشكل ذات لا تطابق
أيا منهما، ولا تختلف عنهما تماما.  يرى (بتي) أن “مادة التأويل هي أصلا عملية تشيؤ عقل ما ليس عقل المؤول ” (ص43 ، دليل الناقد ). يتجسد هذا المظهر الوجودي لفعل الكتابة يقابله فعل التأويل بدرجات متفاوتة في النصوص، لكن بعض الأعمال تجعل منه موضوعا لها، بوعي أو بدون وعي. وقد سبق أن ناقشت في ضوء هذه المقدمة رواية : “المكتوب مرة أخرى” لأحمد الدويحي، ومجموعتين قصصيتين لنورة الغامدي. ويمكن أن تنضم لهذه النصوص رواية: “روحها الموشومة به” لأمل الفاران، إذ يحضر إنتاج اللغة وإعادة إنتاجها عبر التأويل وسيلة للوجود، ويمثل التقنية المهيمنة على النص.

تدور الرواية في فضاء حلم تحلم به البطلة، وتسقطه على حياتها الواقعية، في حضور قوي للرمز، فهي توظف طاقات الرمز في بحثها عن ذاتها التي تعرضت للاهتزاز بعد طلاقها وفقدها ابنها الوحيد. وهكذا كان الانبثاق الأول الحلم وما يحتويه من رموز. والحلم هو خطوة أولى للتأويل، حيث يمتص اللاوعي ما لم يتقبله الوعي، ليعيد إنتاجه عبر محاولة البطلة المستمرة لتأويل أحلامها، حد استعانتها بمتخصصة في الطب النفسي. “كان الحلم قبل أن أعرف الدكتورة ، جاء في منامي مصوِّراً ما يهجس به قلبي وأتجنب مواجهة نفسي به. ما شغلني كل الوقت بعد الطلاق، ماذا سيقول الناس عنِّي؟ وقتها فهمت أن ديدان الأرض ليست سوى أعينهم وألسنتهم”.

وتتوسط اللغة هذه العلاقة المزدوجة الاتجاه بين التأويل والبحث عن الذات، ” لا يمكن أن نتصور الوجود الإنساني بدون لغة ولا يمكن تصور هذا الوجود بمعزل عن آليات فهم الإنسان  للإنسان … اللغة تكون رؤية الإنسان وتفكيره أو تصوره لنفسه وللعالم ” ناصف / التأويل ص20 .وهذا ما يفسر هوس البطلة باللغة كتمثيل لوجود جميل، وحرصها على حماية وجودها بحماية ما ينمو فيه من لغة، فهي تقول واصفة الطبيبة التي هي شخصية موازية تماما لها. “أعرف الآن أن علي تنسيق كلماتي التي سألقاها بها جيداً؛ فقد تغفر هي ـ لمن يحاورها ـ خطايا كثيرة، ليس من بينها أن تكون اللغة أقل جمالاً مما تستسيغ” . ولهذا كانت الكتابة في مفهوم البطلة وجودا مفقودا، يعد الانتحار بدونه موتا حقيقيا. ” ربما لو كنت قد كتبت ما يستحق أن يخلدني بعض التخليد لهان الأمر. الانتحار الآن انتحارٌ حقاً “.  في رواية أمل الفاران فلسفة للعلاقة الوطيدة بين اللغة والوجود تظهر بطريقة مقصودة، أو هكذا بدت لي، فالرواية تصرح على لسان البطلة بالعلاقات المتعددة للظاهرة الوجودية باللغة والزمن والتأويل والكتابة والسرد. يحدث هذا بشكل يكثف القصدية الخطابية ويحضرها للأمام بدلا من موقعها مختفية بين السطور وخلفها. ولعل هذا لا يحسب ضد النص لأن أمل اختارت بطلتها كاتبة، منغمسة تماما في فعل الكتابة في لحظاته الأولى، اللحظات المبكرة للوعي باللغة ومحمولاتها الوجودية.

والوجود مرتبط بالإيمان، والإيمان يرادف الوعي، فحين نعي أنفسنا يبدأ وجودنا، وهذه أولى الحقائق الوجودية التي تقررها الرواية، “حين أخبرت الدكتورة عن اختفاء الوجوه في المرة السابقة، قالت أنها انسحبت حين فقدتُ الإيمان بها”. وتخاطب قلب صديقتها علياء: “أُقَبِّلَهُ، وبعيداً عن مطير أوشوشه: تظل يا ابن علياء _ كما هي _  اليقين الذي لا يخالطه شك”. في دلالة تربط اسم علياء باليقين الذي تبحث عنه، كون اليقين سماوي مصدره السماء.

وحالما نتقدم في الرواية نجد حقيقة وجودية أخرى تتمثل في وعي الساردة بفكرة الوجود (بالإمكان)، وهي فكرة نقرؤها لدى هايدجر، حين يشرح زمانية الوجود، فبقدر ما ينتظرك من إمكانات للوجود؛ أنت موجود، ” تنبهتُ للبذور في يدي فتساءلتُ: كيف أبذرها وأنا لا أميز أنواعها ؟ بعدها قررت أن أُودعها رحم الأرض وأُؤجل المعرفة لحين تنبت”. تلك المنطقة التي تقع في مفترق اللحظة المنقضية والآتية، حيث (الآن) الذي لا يمكن التوقف عنده لأخذ صورة ثابتة، بل يكون التأويل هو الوسيلة الوحيدة لملاحقته، والبحث عن معنى يرادفه. ذلك المعنى الذي لا يكتمل حتى نهاية الحياة، هكذا يكون الوجود مجموع الإمكانات القابلة للتحقيق (أثناء اتجاهنا الموت).

وتتوقف الساردة عند منطقة التفارق بين نقيضين كثيرا، فهي تراها تكثيفا لـ(الآن) الذي يستحيل القبض عليه، في سبيل تأويله. ها هي تسرد مشهدا تتقاطع فيه الوجوه في الحلم الذي يراود البطلة: “حين أغمض عيني تعتم الشاشة تبدأ الوجوه تومض؛ يظهر الوجه من عمق الشاشة صغيراً وبسرعة يتقدم حتى يملأ الشاشة، يختفي في اللحظة التي ينبثق فيها الآخر من ذات البؤرة”، وتتحدث عن مفارقة أخرى تمثلها البيئة البدوية: “مفارقة عجيبة هذه؛ أن يكون الستر أعلى قيم أبناء الأماكن المفتوحة، البدو الذين مازالت الخيام تخفق في أرواحهم يروعهم هاجس الانكشاف”. وتسرد حادثة تعرض لها أخوها سعود: “كان هامداً كأن أفعى شيطانية قد امتصت ما فيه من روح ، أكاد أجزم أنه على الأقل تعرض لتحرش من ماجد. سعود قال إنهما كانا آتيان من المسجد على ما يبدو. في سجل يومياتي تلك الليلة كتبت : (أهذا ما تراه يا ماجد؟ أآمن مكان للفجور عندك هو المسجد؟!)”.

وكل ما سبق يمثل مظاهر لوعي أعمق بالمكون التأويلي للوجود أو الدافع الوجودي للتأويل، كلاهما سيان، حيث تبلغ العلاقة بين التأويل والوجود قمتها حين يغدو فعل السرد وتأويله بالمقابل فعلا واعيا، تمارسه البطلة باجتهاد في ركضها خلف وجودها المستلب. وتبدأ الرواية بناء هذه العلاقة الوطيدة من خلال فكرة التوازي بين الحياة والسرد، التي تظهر من خلال التصريح بالوجه السردي للحياة بمثل عبارتي البطلة: “ثم أخذت الأمور مساراً درامياً حاداً”، “بل أمه التي ظلت طوال عمرها تبارك كل جملة تقرن اسمي باسمه، أمه التي – في النهاية –  أنهت الحكاية بفجيعتي”. ثم إن المفارقات التي سبق أن مرت بنا كوعي وجودي حاضر بقوة في النص، تأتي بدورها لتجسد التوازي بين الحياة والسرد بوصفهما حبكتين مليئتين بالمفارقات. وهنا يطرح النص فكرة توظيف السرد في الحياة ، لصنع التوافق، وبناء التآلف بين المفارقات التي تضغط على سيرورة الحياة، حيث تطلب الطبيبة من البطلة أن تشخص مشاعرها السلبية، وتطردها عبر تصور مشهدي : ” قلت لنواف أن الدكتورة حكت لي أن مشاعرنا السلبية تؤذينا وأن علينا أن نتنفسها حتى لا تضر أجسادنا: أسترخي، استحضر ماجد، أتنفس، يخرج النفس رمادياً، أسود، أحمر..” و في موقع آخر من الرواية تصنع الدكتورة قصة وتجعل البطلة تمثلها أمام أهلها لتصنع موقفا في حياتها.

في رواية أمل الفاران يشكل السرد موضوع الرواية، مستويات متعددة من السرود تقابلها مستويات متعددة للتأويل، تأويل الحياة عبر رموز الحلم، ثم إعادة تأويلها عبر سرد الحلم، وتتعدد الأصوات الساردة والمشاركة في فعل التأويل. وهذه الحركة بين إنتاج اللغة وتأويلها تشكل حبكة النص، التي تضفي عليه – رغم قصره – حركة سردية أخاذة، تحرك ذهن القاريء وتشد انتباهه طول زمن القراءة. قاربت رواية “روحها الموشومة به”، أزمة الأنثى الوجودية في أعمق أغوارها وأبعدها، في صورة غياب الفعل، حتى في حياتها الشخصية، ومن دون أن تحول النص إلى خطابية وإنشائية مفرطة. ومارست تفكيك تغييب الفعل الأنثوي، عبر شحن الحضور كوعي بالحضور في مختلف مظاهره. هذا الوعي بالقضايا الجوهرية في الوأد الممتد للأنثى، وضخه في بنية الرواية ينفي أمرين عن الكتابة النسائية: كون الكتابة النسائية مراوحة مكان عزلة، وكون المرأة بحاجة للانسلاخ عن قضاياها لتكتب تجريبا حقيقيا .

ربما يعجبك أيضا