الخميلة

“الخميلة”، زمن الدهشة:

هذا النص هو من النصوص المنشورة على الانترنت، وهو من أوائل النصوص التي أثارت رغبتي في التعبير عن انفعالي الجمالي بالنص السردي. والنشر الالكتروني أخذ موقعه في السنوات الأخيرة، بحيث استقطب معظم الأقلام، حتى الأقلام المعروفة والتي توالت إصداراتها الورقية، فقد أصبح النشر الالكتروني مجالا للتفاعل الحقيقي، المتزامن مع لحظة الإبداع، وهو ما يتطلبه المبدع حين يجد ردود الفعل على ما يكتب، مهما كانت بساطتها. الخميلة  نص سردي قوي، لقلم قوي عرفناه اسما مستعارا، لكن هذا لا يلغي استقلال النص، الذي اكتسب موثوقيته من زمن نشره، بتاريخ ……. .

ظلت الدهشة التي تركتها قراءتي الأولى لهذا النص تتضاعف كلما حاولت تفسيرها. كانت تختمر بالمعنى الحسي للاختمار، هذه الدهشة  تثير قلقا يظل يضغط على القارىء فيحاول حله بتفسيرها. أو بلغة أخرى هو قلق الأسئلة التي يثيرها النص الجيد، وهنا يأتي فعل التأويل. قد يثير النص أسئلة بشكله وقد يثيرها بمدلولاته، وهذا أمر يتعلق بزاوية القراءة واهتمامات القارئ وهما من أهم موجهات ستراتيجيات القراءة، لكنه يتعلق بقدر أكبر بقدرة الكاتب على زرع الأسئلة في أكبر مساحة من النص بتوظيف الشكل أو المضمون أو كليهما معا عبر ستراتيجيات البنية النصية التي هي الموجه الأساس لفعل التأويل/القراءة. وفي هذا النص أتقن الكاتب اللعب بكليهما ببراعة وبهذا المعيار يمكن تفسير عمق فاعليته وتعقيدها بحيث تحتاج أدوات يمكن أن تستوعب هذا التعقيد_وهذا يفسر أيضا عجز القراء عن التعامل معه بستراتيجية الردود المجانية السهلة كما حدث معي _وهذا سبب قلة الردود وليس طول النص كما عرض القاص في أحد ردوده.

-” ربما كان هذا المكان موضع قبر قديم” ..قال “فهد”.
-”
أنت تفارق بيت والدك لأول مرة، والأمر طبيعي” ..فسّر “مساعد” حالتي.
– “
تعوّذ من الشيطان.. وأذكر الله !!” .. نصحني “مقبل”.

***



كل منهما على صورتي تماما، كأنني توأمهما الثالث؛ طوليهما، بشرتيهما، انتصاب قامتيهما، عضلاتهما المفتولة، أكتافهما العريضة، شعريهما المسترسلين، شاربيهما الدقيقين، حتى الشامة تحت حاجبي الأيسر توجد تحت الحاجب الأيسر لكل منهما. وحدهما في الخميلة التي بدت بلا أطراف. لا يلوح في الأفق سواهما، لا رجل ولا طفل ولا امرأة. الخير عميم. الفاكهة تتدلى من الأشجار المتشابكة. الحبوب مكومة هنا وهناك. والطيور تزدحم بها الأغصان. قطعان الظباء تهيم في الخميلة بلا عدد. الطبيعة بكر. الأرض خصبة مد النظر. المياه ينابيع وعيون متفجرة في كل بقعة. لا يكلّم أحدهما الآخر، ولا يلتفت إليه. لا يتبادلان النظرات ولو للحظة، حتى لو تلامسا بالأكتاف. كأن أحدهما لا يرى الآخر مطلقا. سماء الخميلة كالحة،كئيبة، يكسوها سحاب شاحب، واقف لا يتحرّك. مساء الخميلة دائم لا يتحوّل. الهواء ساكن تماما، لا يحرك غصنا أو ورقة نبات. الطيور تنتقل من غصن لآخر انتقالا آليا. الماء ينساب بلا صوت. المواشي والظباء تسير في قطعان صامتة. لا حفيف، ولا خرير،ولا هديل،ولا زقزقة، ولا صوت للحياة)).

***



عندما وصلنا إلى مقر عملنا الجديد، تنامى إلى أذهاننا سؤال واحد :
– “
من أين سيأتي التلاميذ؟”.
– ”
سندرّس للجن هنا!”.
– “
يا لهذا الترف التعليمي؛ مدرسة جديدة في قلب الصحراء؟!”
– “
هذه هي المدرسة.. فيها ستدرّسون وفيها ستسكنون”.. هتف دليلنا البدوي، ودلف إلى الداخل مشيرا لأن نتبعه إلى فناء قصير وخمس حجرات متناثرة بداخله.
– “
هذه غرفة الإدارة، وهذه للسكن، وتلك لتحضير الطعام ، والباقيتان فصلي الدراسة”.
وزّع فهد الحجرات، إذ كان قد استقر رأينا على أن يكون فهد هو مدير المدرسة. ركب الدليل سيارته الجيب، التي تشبه سيارتنا، وأدار محركها ، ورفع يده مودعا:
– “
أظنكم عرفتم الطريق إلى المركز، ومنه تعرفون الطريق إلى المدينة، لأي طارئ توجهوا إلى المركز فورا “.
تعالى غبار الصحراء خلف سيارته، وقد قفل راجعا من حيث جاء بنا إلى هنا؛ قفر موحش، وأشجار يابسة، ولا ما يدعو إلى التصديق بأن ثمة وجود للحياة هنا.

***



((
في لحظة من مساء الخميلة الدائم، كان كل منهما يرتدي بزّة من جلد الغزال، وحذاء جلديا يمتد إلى منتصف الساق، شُد برباط وثيق. وقد حمل كل منهما سيفا دقيقا بنصل طويل ذي حدين. كل ما منهما يشبهني تماما، أناملهما الطويلة، حاجبيهما الدقيقين، حتى قذلات شعرهما الطويل تتدلى على أكتافهما كتدلي قذلتيّ. التقت نظراتهما للمرة الأولى، ركزا النظر من المحاجر إلى المحاجر، توقف كل منهما عن الحركة، وابتسم ابتسامة تنم عن كراهية. ازدادت الخميلة سكونا وقبحا. سحب كل منهما نظراته من محاجر الآخر، ونكص راجعا من حيث قدم)).

***

الصوت السردي في النقد السردي:

فسرت القصة في بدايات تبلورها نوعا أدبيا على أنها حركة حدث وشخوص في إطار زمن ومكان، بينما المحرك الأساسي لهذه العناصر ظل في الهامش. ولعل هذه النظرة السكونية للقصة في شكل هيكل ساكن قد تم ترسيخها بفعل سطوة المنهج البنيوي على النظرية النقدية فترة غير قصيرة. وبحسب هذا المنهج ينظر للنص بوصفه بنية /هيكل يتم وصفه من خلال عناصره وتعالقاتها في لقطة فوتوغرافية ثابتة ومن من موقع علوي كروكي، لكن من جهة أخرى لا يمكن إغفال دور النص نفسه في توجيه أدوات قراءته _ومن هنا يمكن ربط تجاهل النقد السردي حركة موقع الراوي بضعف حركته في غالب النصوص القصصية في مراحلها المبكرة_ طبعا باستثناء الاختراقات الفردية للأفق الذي أطر مقومات السرد في تلك المراحل نذكر على سبيل المثال “ديدرو”” في جاك المؤمن بالقدر” التي كتبت في القرن الثامن عشر، أي في بدايات تبلور الرواية كنوع أدبي مستقل. وعندما تنبه القصاص إلى قدرات هذا الساكن المهمش بدأت تقنية جديدة تهز جمود الهيكل في القصة تلك هي تقنية التلاعب بموقع الراوي.

صنف الرواة بحسب موقعهم فكان الراوي الخارجي العليم والراوي الشخصية/الممسرح، لكن الحديث عن موقع الراوي ظل متأثرا بسكونية الهيكل الأصل، حتى تحرك هذا الراوي وحرك معه راكد النص فتحركت أعماقه وخرجت تتنفس وتشكل عوالمها الخاصة والمتوترة. ومن النقاد العرب الذين اشتغلوا على هذه التقنية سعيد يقطين في كتابيه حول السرد[1] _ويمنى العيد التي قدمت قراءة جميلة لمنيف من خلال موقع الراوي[2].

‏ يمكن مناقشة هذا النص السردي من خلال موقع الراوي، وسيفيدنا هنا مفهوم سعيد يقطين في مناقشة موقع الراوي من خلال مصطلح التبئير الذي صنف بواسطته موقع الراوي إلى: الجواني والبراني والمركّب. الجواني صوت من شخصيات القصة قادر بحكم موقعه على استبطان الشخوص ابتداء من نفسه من خلال علاقاته بالشخوص عبر حركته داخل النص. والبراني صوت من خارج النص غير قادر على فعل الاستبطان بحكم موقعه المتعالي بل يكتفي بوصف المشاهد والشخصيات ومتابعة حركتهم في الزمن.

وفي “الخميلة” يمكن تتبع موقع الراوي وفاعليته الجمالية عبر مستويين :

1- من خلال تقاطع حضور صوتين سرديين يتناوبان السرد _أحدهما راو خارجي يحضر في مقاطع الخميلة، يتابع من الخارج ويصف سردية مشهد وحركة شخوصه.  الصوت الآخر يتحدث من داخل النص _الشخصية الرئيسة التي تستبطن قلقها وتفاعل الشخوص الأخرى مع هذا القلق_ والقاص في مراوحته بين الصوتين يحرك فعل القراءة نحو توازن دقيق يحفظ توازن التفاعل الجمالي مع النص عبر توظيف مزايا أداء كل من النوعين، فالراوي الخارجي يحرك شخوص المشهد حركة صاخبة يتقن عبر صخبها إحكام قبضته على القارىء بشد ذهنه عبر الوصف الحسي لتوتر المشهد. والاستبطان لدى الراوي الجواني يثري المحمول الدلالي للقول في مقابل الحركة المشهدية _مما يسهم أيضا في شد انتباه القارئ _من ناحية ثانية يوظف القاص الحوار في أداء الاستبطان، حوار بسيط يسهم بهدوء في إدارة تفاعلنا مع صوت الراوي عبر التدليل البسيط بلغة مقتصدة. وستظهر أهمية هذا الاقتصاد والبساطة حين نقارنها بتعقيد فعل التدليل في أداء الراوي الخارجي، وهو تعقيد تمثله لغة كثيفة ذات محمول رمزي عميق يعوض ضيق وصغر زاوية النظر التي يفرضها موقع الراوي الخارجي _والتي عادة تفقر فعل التدليل عبر ضعف المحمول الدلالي فضلا عن الرمزي لمقولات هذا النوع من الرواة.

 ‏……………………………………….

2‏_‏ في المستوى الثاني يظهر الراوي المركب_وذلك من خلال اتحاد الراويين السابقين _ حيث يكتشف القارئ بشكل مفاجئ أن الصوتين السابقين هما في الواقع صوت البطل نفسه وهنا تكمن لعبة النص _ استطاع القاص إيهام القارئ بتعدد الرواة عبر تنويع موقع الراوي من جهة وعبر تشظية النص إلى نصين اثنين من جهة ثانية _ وهما تقنيتان متعاضدتان حيث لا يمكن تمييز نصين بعضهما عن بعض دون تعدد الرواة.

أما تعدد الرواة فقد يحدث في نص واحد كما في رواية أمل الفاران مثلا”روحها الموشومة به”_إلا أن تشظية النص إلى نصين مستقلين ساهم في تعميق الفاصل بين الصوتين_ وهذا الفاصل العميق ليس اعتباطيا بل هو وسيلة تدعم قوة مفاجأة القارئ، بحقيقة كون الصوتين اللذين أوهمنا القاص بانفصالهما -عبر تشظية النص على صوتين سرديين- يعودان لراو واحد. ليس هذا فقط، بل وبالتبادلنجد أن النصين اللذان حرص الكاتب على إيهام القارئ باستقلالهما عبر تعدد الرواة هما نص واحد أيضا حيث يتحدان في حدث واحد هو مغامرة اغتراب البطل عن وطنه للعمل . وهذا الراوي المركب كما رأينا لم يجئ بطريقة مجانية سهلة_بل تطلب ستراتيجيات معقدة تمثلت في ما شرحناه من إيهام التشظية لتعميق إيقاع المفاجأة، وتمثلت أيضا في الوسائل التي وظفها القاص في هذا الإيهام . وقد سبق أن عرضنا منها أسلوب تعميق الفاصل بين النصين وبين الراويين كما جاء في المستوى الأول

‏ ‏************

انفصام الدال والمدلول:

دون أن أستطيع الاستطراد هنا لعله يسعني أن أسجل كيف استطاع القاص تشغيل كل أدوات النص وإمكانياته في تشخيص دلالة الفصام التي أصابت البطل بسبب الحدث/الغربة. من خلال الشكل/الدال : فعل التشظية وكل الوسائل الأسلوبية التي يتيحها النوع السردي التي وظفت فيها : تعدد الرواة، تفاوت لغة السرد من خلال توظيف الحوار، تشظية النص لنصين مستقلين. ومن خلال المضمون/المدلول: الصراع بين شخوص النص المروي من الخارج، الصراع بين الحاجة لتحقيق الذات من خلال العمل وبين ضغط الغربة، وانقسام البطل على نفسه بين الواقع والخيال نتيجة الضغط النفسي، ويتمثل هذا الانقسام في مشاهداته للخميلة التي تبدو نوعا من ترميز الواقع عبر حلم يقظة. وهذا الترميز أحد أدوات السرد وظفه القاص بشكل جميل، حيث تم تمثيل الصراع النفسي في صراع حسي. ويثير المشهد المتخيل سؤال يتعلق بواقع البطل، فالصحراء التي تمتليء فجأة بالأطفال وغموض المكان يوحي ببعد غيبي فانتازي، مما يضيف احتمال كون مشاهدات البطل واقعية بإدخال عنصر وجود غير بشري.

هذا الإمساك المتقن بكل أطراف النص وأدوات السرد في أداء دلالة التوتر والضغط من أجل تجسيد واقع اجتماعي. هكذا يعالج النص الإبداعي الواقع ويتيحه للتأويل المنتج، بحيث لا يمكن فصل الدال عن المدلول ومن ثم مصادرة الدال وتفريغه من دوره في فاعلية النص الجمالية التي عبرها تتحرك فاعليته الأخلاقية والاجتماعية.


[1]

[2]

ربما يعجبك أيضا