عكاظ 2008
كثير من المصطلحات الدارجة يفرض نفسه على حياتنا بالاستعمال، مع أنه يفتقر للمنطق ولشروط تشكيل المصطلح، لأن المصطلح في النهاية تحكمه وظيفته التداولية، ولهذا قيل إنه لا مشاحة في الاصطلاح. ومن تلك المصطلحات المتداولة على كل المستويات مصطلح:” التعليم العالي”، وهو من المصطلحات التي تتضمن قيمة، والقيمة لا تنشأ محايدة، بل تنشأ عن قيمة مقابلة أو مغايرة تميزها، وتختلف القيم فمنها القيم المجردة، كتلك التي يستعملها الرياضيون والكيميائيون مثلا، ومنها القيم ذات المحمول الأخلاقي، وفي النوعين كليهما ينبغي أن يكون للتراتبية ما يبررها. ووجود التعليم العالي يشير مباشرة إلى درجة الصفر في التعليم، تلك التي يقاس إليها العلو والانخفاض. وهو أمر غير وارد، فالتعليم مثل أي فعل اجتماعي إيجابي، تحكمه وظيفته، يحدده الغاية والدافع، فما من تعليم منخفض أو متدن أو (واطي)، بل إن لكل مرحلة من التعليم أهدافها وغايتها التي لا تتحدد بالعلو والانخفاض. ولهذا فإننا نجد المقابل للتعليم العالي هو التعليم العام، وهذا ناشيء عن المحمول القيمي الأخلاقي لمصطلح”التعليم العالي”، فليس التعليم العام مقابلا للتعليم العالي بل الأخير تمييز عن الأول وتخصيص عليه.
ولعل هذا التراتب في المنزلة يكون مقبولا نسبيا بالنسبة لمراحل التعليم ما قبل الجامعي مقارنة بالمرحلة الجامعية، لكنه ليس مقبولا أبدا في نطاق المقابلة بين كليات التربية وكليات المعلمين وجميع نطاقات التعليم ما بعد الثانوية، ككليات التقنية والكليات الصحية، وبين التعليم الجامعي، فهذه النطاقات جميعها تتشارك الموقع والهدف وحتى الدرجات العلمية التي تمنحها، وهذا ما يجعل من هذه العلاقة الملتبسة تثير حساسية وجدلا حيثما تلمس، غير أنها مع تلك الحساسية والجدل تشير إلى خطأ مزدوج، وفق هذا الخطأ تصنف الكليات العملية في منطقة قلقة بين التعليم العالي والعام، فهي تمنح درجة التعليم العالي وهي محكومة بشروط التعليم العام، وفي هذا كثير من التناقض والازدواجية، تم التنبه إليها أخيرا وتلافيها عبر مراجعة نسب هذه الكليات وفق أهدافها وغاياتها.
من هنا جاء قرار دمج كليات التربية وإعداد المعلمات ضمن وزارة التعليم العالي وهو قرار حكيم وإن يكن متأخرا، فقد تحدث الكثير من المهتمين عن الوضع الحرج للتعليم العام لدينا، خاصة في مراحله المبكرة، والذي نتج عن الإعداد غير الجيد للمعلم، والشروط غير الحازمة التي يتم في محيطها تشكيل هذا الركن الأساس للتنمية في أي بلد. فمن غير المعقول أن يتم تعليم الطالب ومعلمه ضمن الشروط نفسها في إطار ما يسمى بالتعليم العام، وفي الظروف نفسها وتحت المفاهيم نفسها والمطالبات ذاتها. وهو تعليم يقوم على شروط الاختصار والإلمام السريع، والتلخيص ولذلك ما يبرره ويجعله مقبولا، فإذا كان التعليم العام يعد الطالب في مراحل التعليم العام ليكون ملما بمختلف مجالات العلوم، ليتمكن بعدها من اختيار التخصص الذي يناسبه، ويستطيع الإبداع فيه والإسهام وخدمة مجتمعه من خلاله، فإن المعلم ينبغي أن يكون متبحرا في تخصص معين ومؤسسا تأسيسا جيدا فيه، بحيث يقدم للطالب كل ما يريد معرفته في مجال ذلك التخصص، ولذلك فلم يعد مقبولا أن يدرس المعلم في كليات التربية وإعداد المعلمين وفق شروط التعليم العام، التي تقضي بالإلمام العام بمواد مختلفة شاملة ومنوعة، من دون التوسع فيها، وهذا ما يفسر بوضوح القرار بإخراج الكليات من نطاق التعليم العام، ودمجها في نطاق التعليم العالي، لينتقل منسوبوها إلى مرحلة جديدة من التعليم القائم على التوسع في تخصصاتهم، وتطوير قدراتهم، والاطلاع على الجديد والأحدث في مجالات تخصصاتهم. يبقى أن تكمل وزارة التعليم العالي مهمتها لإنجاح الخطة الجديدة، بشرح هذا الانتقال ومبرراته وأهدافه ومراحله للمعنيين، عبر أنشطة توعية ونشرات توزع على الطلبة وأعضاء الهيئة التدريسية والإداريين، تكون موثقة ومعتمدة من قبل جهات متخصصة مفوضة من أصحاب القرار، بحيث لا يترك مجال للبس والغموض، وبحيث لا يترك مستقبل الطلبة القائم على تفاعلهم مع الخطط الجديدة متروكا لتفسيرات شخصية متضاربة من أشخاص لم تتم توعيتهم بمواقعهم ومسؤولياتهم عما يصدر عنهم من أقوال وأفعال. هذا والله الموفق.