حضارة الوأد

حضارة الوأد

خط أمان مفتوح لقبرص، لضمان نزيف منتظم للكرامة العربية، ذكرني بخطوط كثيرة، انتظمت طوال قرن ونصف من الزمن، نزيف من نوع آخر، نزيف للعقول والطاقات العربية، في هجرات كبرى، في أشد أزمان انهيار الأمة وضعفها. ولا يزال النزيف مستمرا، تتعدد أشكاله وألوانه وخطوطه أيضا..
مالك بن نبي، محمد أركون، إدوارد سعيد، ومحمد عابد الجابري، وأسماء ليست بالقليلة، من أصحاب المشاريع الفكرية، التي لم تكتف الأمة العربية بإهدارها، بل داومت على محاربتها وإجهاضها أولا بأول. ولعلنا أشهر أمة بمحارق الفكر الكبرى، منذ مكتبة ابن رشد، وسياحة ابن تيمية في أقبية سجون دمشق.. يحدث هذا في الزمن الذي اختارت فيه أمم العالم الحديث، أن يكون مفكروها هم قادتها، وإبرة بوصلتها، فكل منظومات الحضارة الحديثة، شرقيها وغربيها، قامت على أساس من مشروع فكري، وفلسفة تتضمن موقفا من الوجود. ومهما كان موقفنا الأيديولوجي من أوروبا التنويرية، وألمانيا النازية، ونمور آسيا، الوثنية منها والمتدينة، فقد كان لكل منها قاعدته الفكرية المحكمة، التي وقفت وراء مسيرتها الحضارية

أما نحن العرب، فقد قامت منظومتنا الحضارية على منهج الإقصاء لا التأليف، والنفي لا الاحتواء. ولعل هذا هو ما أنتج المركبات العشوائية لدولنا ومؤسساتنا السياسية والاجتماعية، التي لا تنتظمها ولا تحكمها أي بنية فكرية أو فلسفية واضحة، مهما كانت بسيطة. لقد دأبنا نحن العرب على وأد العقول الفريدة، فالفرادة والإبداع الفكري هي تهمة كافية لقتل صاحبها حيا أو ميتا، قتل جسد أو قتل روح. أليس من العجيب مثلا أن يصبح ابن تيمية رحمه الله تعالى، علامة على الجمود، وعلما للانغلاق عند بعض مدعي الانفتاح من أعرابنا؟ وهو الذي افتتح دربا من الحوار الفكري لم يسبقه إليه أحد، مع الفلاسفة والمناطقة وأي ثقافة أخرى تعرض له ؟…. إن ما حدث لابن تيمية، أن روح التجديد لديه تم وأدها، فتم قتله مفكرا، وتعرض مشروعه الفكري للقص والتشذيب، بحيث لم يصلنا منه إلا فتاوى الحج والعمرة، وأحكام الطلاق والنكاح. وهذا ما حدث مع كثير من سنة نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكل فريق من الفرقاء اصطفى ما يدعم موقفه، ونبذ غيره، مما أنتج لنا ألوانا من السيرة النبوية، بعضها ينقض بعضا، بينما يفترض أن يدعم بعضها بعضا، في تنوع ثري، ائتلاف لا تناقض ولا تشظٍ وتمزقات.

في اليابان تنقلب الدنيا رأسا على عقب، وتغربل الأجهزة الحكومية بأسرها، وصولا إلى رئاسة مجلس الوزراء، إذا تم تسجيل انخفاض في معدلات النجاح في المدارس والجامعات. وفي فنزويلا، تم استحداث وزارة، وظيفتها الإشراف على مناهج التفكير، وتطوير وسائله في مرافق الدولة كافة. وفي كل بلاد العالم هناك ربط قوي بين الفكر والبنى المختلفة للأمة، سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية، إذاً فلم لا نمنح نحن عقول أبنائنا بعض الاحترام والتقدير ؟

في اتفاقيات أوسلو على سبيل المثال، قامت السلطة الفلسطينية _أيا كان اسمها السياسي آنذاك_ باحتواء مفكرين فلسطينيين، في ما سمي بالمجلس الوطني الفلسطيني، كان من ضمنهم الراحل إدوارد سعيد، فكيف تم التعامل مع تلك النخبة المفكرة ؟…. بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع مشروع سعيد الفكري في تفاصيله، فقد كان له رؤية مميزة للأزمة الفلسطينية، تم كبتها وتسفيهها، بحيث انسحب الرجل من المجلس الفلسطيني الذي كان الغرض منه التوقيع على القرارات الجاهزة سلفا. وبالطريقة نفسها، أو بطريقة أغبى تم تجاهل إنتاج الراحل مالك بن نبي، في تحليل بنية الحضارة العربية، ومشكلاتها. ولا يزال الجابري وأركون يناضلان في سبيل إنجاز مشروعيهما، في النبش عن جذور أزماتنا في عمق العقل العربي، أو في تربة التكوينات المجتمعية وعيا ولا وعيا..

ارتبطت نهضة الأمة الإسلامية في عصورها الذهبية بالانفتاح الثقافي، والتركيز على الجانب الفكري، والحوار العقلي العميق، منطقا وفلسفة، فيما سمي بعلوم الكلام، وكان هذا تحت سمع كبار علماء الأمة وفقهائها. وكان الخلاف الفكري بما فيه الفقهي حديقة كبرى، تنمو فيها مختلف التكوينات الفكرية المثمرة، ولولا ذلك ما تشعبت مذاهب أهل السنة لأربعة مذاهب، بعضها يحترم بعضا، ويدعمه ويقدره. حدث هذا قبل أن يصير التفكير شبهة يحاسب عليها صاحبها، وتقام له المحاكمات والمحاسبات التي لا ترضى بغير نبذه وقتل روح الحياة في عقله. ولنا أن نقرن انحدار الأمة حضاريا بانحدار عنايتها بالفكر والمفكرين.
إذا كان في دراسة المنطق شبهة عزلتنا عن عالم الفكر قرونا متطاولة، فهل في استيعابنا لذواتنا وتأمل مشكلاتها شبهة ؟

لن يكون أي تقدم باتجاه انفراج أزماتنا السياسية والاجتماعية المتكاثفة تعقيدا، من دون التواصل مع ذواتنا فهمها وتمثلها الكامل، ضمن دائرة واسعة من حضارتنا ومشكلاتها. ولن يحدث هذا ما دمنا نهدر كل محاولة في هذا السبيل، ونحارب أي مشروع للتفكير والتأمل ومواجهة الذات. ألم يحن الوقت لنراجع موقفنا من مفكرينا ؟ أن نحتوي عقولنا وأسئلتها ونوجهها باتجاه يخدم الأمة في كبواتها المتكررة ؟

لقد حان الوقت لنحتوي هذه المشاريع الفكرية الرصينة، ونطرحها للدرس والنقاش، نستبصر بما نجحت فيه، ونعالج ما فشلت فيه. ونقدمها لشبيبتنا قدوة في مواجهة الذات، وفي التفكير والتأمل، وقبل هذا وذاك، قدوة في الانتماء للذات / الوطن، وعدم الرضى بانتكاساته. لقد واصل مفكرونا السير في ظل الجحود والإعاقات، وأنتجوا ما وقفت له الثقافة العالمية احتراما وتقديرا، فكيف بمشاريعهم ومثيلاتها لو تم احتواؤها وتطويرها على يد أجيالنا الحالية والقادمة ؟
إنني أتأمل وأرى الكثير من الوعود.. ولطفك اللهم بأمتنا…

ربما يعجبك أيضا