الوطن 2017
http://alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=35859
الكتابة محكومة بالوقت، بالظروف، ومثمنة بعين القارئ ومحفوفة بعين الضمير، لكن من تختلط الحروف بهواء أنفاسه لا يمكنه التخلي عن الكلمة! ولهذا اسمح لي عزيزي القارئ أن ألتقط أنفاسي بجزء من أرشيفي، لعلي أنعش ذائقة النشء وذاكرة الكبار بعبق من الأدب الرفيع.
منذ سنواتي الدراسية الجامعية وأنا أسمع عن قصص الكاتبة نورة الغامدي، قرأت بعضها في الصحف، وكنا نسمع عن إصداراتها، ولا نعرف كيف نحصل عليها. مع روايتها كان الأمر أصعب، ظللت أشاهد حضورها المتقطع في الوسط الإعلامي، عروض للرواية هنا وهناك، وظلت الصعوبة في الحصول على العمل مانعا دون قراءته رغم حرصي.
وحين اطلعت على المجموعتين القصصيتين للكاتبة، وجدتها جديرة بقراءة مستقلة، فعكفت على قراءتها، ولم أستطع الخروج من جوها، حتى اليوم، الأولى بعنوان: «عفوا لا زلت أحلم»، والثانية بعنوان: «تهواء».
كان أول ما لفتني في نصوص الكاتبة نورة الغامدي القصصية، اتكاؤها على الموروث، وإذا ما نظرنا للموروث على أنه نص مكتمل، سنجد أن الكاتبة حريصة على أن تنشئ نصوصها بالاشتباك مع هذا النص، لغته، رموزه، مرجعيته الفكرية، بحيث تكاد نصوصها تكون امتدادا لهذا النص، حنينا إليه، واستدراكا عليه.
وتبدو الحكاية هي البنية التي اختارتها الكاتبة، من بين البنى التي يتقلب في مفاصلها الموروث بوصفه نصا. الحكاية/ اللغة، والحكاية/ الثقافة، بما تحمله من روح ذلك الزمن، غير المنبتة عن جذورها في طينة الفكر الأسطوري.
في قصة «من كم جدي»، في مجموعتها «تهواء»، تصوّر الساردة -وهي حفيدة من أحفاد الجد سعيد- جدها في ثياب أبطال الحكايات. الجد الذي يسافر إلى حاضرة مكة، بحثا عن الكنز/ أو ذاته، فتفشل رحلته، ويعود للقرية يائسا، حيث يبتكر حيلة يحقق من خلالها ثروة طائلة، ليجد الكنز، في المكان الذي تجاهله، في ذاته وهي تتنفس هواء القرية. في حيلة الجد، يتم تكثيف العلاقة بين الريف والمدينة، وزمن كل منهما، بطريقة سردية غاية في الطرافة، فالجد يفشل في التعايش مع المدينة بروح ابن الريف، تلك الروح التي تدفعه لمساعدة أحد الحجاج كبار السن، فيعبر له الحاج عن امتنانه، بإهدائه أداة تكنولوجية أحضرها من بلاده، منظار يختزن عددا من الصور، تمثّل رحلة الحج ومناسكها كاملة. وحين يعود للقرية، يقنع الشاب أبناء قريته بالحج عبر منظاره، الذي يخبئه في كمه، ويساعدهم على اختصار رحلة الحج المضنية لدقائق، مقابل مبلغ من المال.
عقلية الريفي البسيط في هذه القصة لم تكن ساذجة بقدر ما كانت تعيش زمن الأسطورة، زمن توحد الإنسان بالمكان، والكائنات حوله. بتلك العقلية صدّق أبناء القرية وجودهم وسط حاضرة مكة، يؤدون شعائر الحج، ويعودون ولم يتحركوا من أماكنهم. يدعم هذا الجو الأسطوري، مكان الحدث، وهو واد مهجور مسكون بالجن، فيه تكتمل أسطرة الحدث، حيث تختفي الفواصل الزمكانية بين الكائنات.
هكذا يستدير الزمن تماما، ويعود رمز الفشل، المنظار، الذي كان نشازا في حقيبة الجد، ليتحول أداة للنجاح، حين يتم دمجه في منظومة المجتمع الريفي، ووضعه في موضعه من عقلية الريفي البسيط. وقريبا من هذه الحيلة للجد سعيد، كانت حيلة بائع المسابح، في قصة «روح برقان» تعيد ترتيب القرية، الذي حل كثيرا من مشاكل القرية، ومنها مشكلته الخاصة، باستغلال الفكر المشحون بالأساطير وعجائبيتها.
في القصة ذاتها أبناء الجد سعيد هم امتداد لوالدهم، تعرض الساردة عبرهم، معاناة ابن الريف، المقدر له الترحال كأبطال الحكايات، باحثا عن ذاته. وفي نهايات تلك الرحلات ينجح البطل أحيانا في تذويب الفاصل الحاد بين زمن الريف وزمن المدينة، ويفشل في ذلك أحيانا، فيواجه فشله بابتكار زمن غير واقعي يهرب في دهاليزه.
شخصيات القصص تبدو كما لو كانت هاربة من صفحات الحكايات العجائبية، عقدة وحيلة، وأحيانا أمراء، كما في قصة «الطاقية» مثلا، لكن الكنز الذي يبحث عنه كل هؤلاء الأبطال، هو الذات المتأرجحة حد التمزق، بين زمنين.
لطالما كانت القصة مفتاحا لفهم الإنسان ذاته واتصاله بها وحواره معها، في سبيل اتخاذ موقع من العالم، وفي حركة الزمن المتسارعة تصنع القصة ذاكرة يتكئ عليها الإنسان لفهم واقعه وتوازنه مع تحولاته.
أسماء الزهراني 2017-12-01 11:56 PM