مؤشرات الأداء في مؤسساتنا الصحية بين نموذجين

حيثما وجدت المساءلة والرقابة وجد الانضباط، بل إن المساءلة تحفز المسؤولية في الموظف، وتقدح شعلة الضمير، فالجو الذي يشيع فيه الانضباط القائم على قياس مؤشرات الأداء يكون بيئة خصبة الإبداع

تنشط المؤسسات الحكومية وغير الحكومية اليوم في نشر الاستبيانات لقياس رضا العملاء، وهو إجراء صحي جدا، وجزء أساس من أي عمل مؤسسي ناجح، لكن الاستبيان -في الواقع- هو أحد وسائل تقييم الأداء، وهو خطوة أخيرة، تقع في نهاية سلسلة من الخطوات في أي خطة إدارية ناجحة، تبدأ من بعده عملية مراجعة شاملة لبناء خطة جديدة وفق حاجات العملاء ومرئياتهم. وهو -بهذا المعنى- ممارسة لمبدأ المسؤولية تجاه العملاء، وتجاه تطوير المؤسسة، وليس ممارسة شكلية، لا تؤدي لأي نتيجة مشاهدة في الأداء، وليس لها أي أهداف عملية غير «القعقعة التي لا طحن من ورائها»! 
هذا ما كنت أفكر فيه -بأسف شديد- وأنا أملأ استبيان أحد المستشفيات الجامعية الأعرق، وقد وصلتني آليا، بعد زيارة مؤسفة بكل المقاييس. كنت بين نارين بالفعل، لأني أخشى أن تؤثر في حكمي عاطفة الأم التي ظل ابنها -مهملا في طوارئ المستشفى المذكور- يتلوى بوجع (التهاب الزائدة الحاد)، الذي اضطر أطباء مستشفى آخر لإدخاله غرفة العمليات، واستئصالها خلال ساعات، فتركت الاستبيان حتى هدأت حالة الابن، وتفرغت ذهنيا لأملأ الاستبيان، من منظور المسؤولية الوطنية للمشاركة في النهوض بمؤسسات الوطن.
الطريف في الأمر أن الاستبيان وصلني من دون أن أتلقى أي خدمة من المستشفى، غير سوء استقبال الطبيب للحالة، ثم انتظارنا وسعينا بين أركان المستشفى بحثا عن مساعدة! كنت أعتصر ذاكرتي بقوة لكي أصعد بالتقييم فوق (السيئ)، في 95% من أسئلة الاستبيان تعامل الطبيب مع المريض؟ وقت انتظار الكشف المبكر (هذا إن استطاع المريض الحصول على هذا الكشف)؟ الخدمات؟… إلخ. ولأن هذا المستشفى يخدم شريحة كبيرة جدا من المواطنين، وهو نموذج لغيره من المؤسسات الصحية الكبرى، أجد من واجبي الحديث -من خلاله- عن بعض مؤشرات الأداء، في قطاع يرزح تحت ثقل الفوضى من عقود.
أول ما يمكن ملاحظته في هذا المستشفى وفرة الأطباء غير المواطنين، ومن جنسية محددة على وجه الخصوص، على حساب الطبيب السعودي الذي يظل بعد تخرجه سنوات يبحث عن عمل. وتجدر الإشارة إلى أن هؤلاء الأطباء لا يشغلون مواقع هامة، أو يملكون مميزات تنقص أبناء الوطن، وتسوغ كثرتهم، بل هم أخصائيون في مراحل مبكرة من الخبرة الطبية، مما يطرح علامة استفهام كبيرة حول توطين الأطباء، وحول التركيز على جنسية محددة!
بعد رفض الطبيب التواصل معي، والكشف على ابني في موقعه -لاشتباه حاجته لجراحة عاجلة- طلبت التواصل مع مسؤول في المستشفى، وقد أدهشني تبريره لموقف الطبيب، التبرير الذي سيكون ملاحظتي الثانية على تلك المؤسسة الصحية الكبرى، حيث قال حرفيا بهدوء بالغ: «لا يوجد بطوارئ المستشفى سوى ستة أسرة، أحدها يجب أن يترك خاليا لحالات الإنعاش، والسبب أن قسم الطوارئ مقفل ونعتمد على أسرة طوارئ الأطفال الستة»، وسأضع هنا ألف علامة تعجب واستنكار لو صح ذلك في اللغة، واتسعت له الصفحات، فكيف يقفل قسم الطوارئ لأي سبب، دون أن يكون له بديل، في مستشفى يخدم مع مستشفيين آخرين -لا يفضلانه بكثير- مدينة يسكنها ملايين؟!
وقبل أن أتواصل مع الإداري المسؤول كنت قد ذهبت للطبيب المشرف المناوب، فوجدته نائما في مكتبه، ثم سألت عن الاستشاري المناوب فقيل لي إنه يحضر صباحا بعد أن تنتهي نوبة الطوارئ كاملة، فماذا لو حضرت حالة حرجة تستدعي حضوره ومشاركته شخصيا؟! لم أجد إجابة لدى طاقم الاستقبال الذين يتحملون بصبر انفعالات المراجعين. هذا المستشفى التعليمي العريق، ولن تستغرب هذا عزيزي القارئ، إن قلت لك إن كبار الاستشاريين قبل صغارهم، لا تكاد تجدهم في عياداتهم، وإن حضروا ففي الضحى قبل الظهر بسويعات، منشغلون بعيادات خاصة، يقدمون فيها أفضل خدمة، على حساب واجباتهم في المستشفى. 
في المقابل عليّ أن أشيد بما وجدته في مستشفى الملك خالد بمدينة الملك عبدالعزيز الطبية، بعد أن غادرت بابني إليه مضطرة، فمن بين عشرات الموظفين الذين مروا على مريضنا (أطباء وممرضون وأخصائيون فنيون، حتى المستخدمين) لم أجد وجها واحدا لا تعلوه ابتسامة حانية، بل إني سمعت الطبيب المواطن الشاب «معن جمجوم» يتذمر من عدم استدعائه للمساعدة، وهو في طريقه للكشف على ابني، في القسم المزدحم بالمرضى بمختلف الحالات الحرجة، وكنت أتابعه بفخر وهو يمازح ابني/ الموجوع، مخففا عنه آلامه وخوفه من الجراحة، وأشاهد طاقم التمريض الذي يتحرك مثل خلية نـحل، في نشاط وسعادة يشعر المريض وذووه بالأمان بينهم. أذكر اسم الطبيب بامتنان، متمنية لو أتذكر اسم كل صاحب ضمير حي شهدته في ذلك اليوم. 
بعد تلك التجربة الصعبة خرجت مثقلة بأسئلة كثيرة عن الفارق بين النموذجين، -هما مثالان على أداء مؤسساتنا الصحية- وعن مسوغات ذلك الفارق!! والطريقة التي تؤسس للجودة الصحية في جميع مستشفياتنا على السواء. وبمحض الصدفة قرأت مقال الدكتور فهد الجمعة -المنشور بجريدة الرياض الثلاثاء 4 صفر 1438- وقد ناقش فيه أهمية مبدأي المسؤولية والمساءلة في تحقيق أي خطة تنموية طموحة. وجدت في المقال الإجابة عن أسئلتي، فحيثما وجدت المساءلة والرقابة وجد الانضباط، بل إن المساءلة تحفز حس المسؤولية في الموظف، وتقدح شعلة الضمير، فالجو الذي يشيع فيه الانضباط، القائم على قياس مؤشرات الأداء -بكل الوسائل ومنها الاستبيانات- يكون بيئة خصبة للاجتهاد والإبداع. ذلك هو الفارق إذن، بين مؤسسة تؤدي مسؤوليتها المهنية بمساءلة منسوبيها: تحاسب المقصر، وتحفز المبدع والمجتهد، ومؤسسة لا تعرف من قوانين الإدارة غير صياغة الاستبيانات!!
 أسماء الزهراني        2017-10-27 11:41 PM

ربما يعجبك أيضا