مستقبل التعليم: الرؤية والهوية/1

الوطن/ 23 فبراير 2019

لقد احتل التعليم اهتمامي الأول منذ بدأتُ ممارسة الكتابة في صفحات الرأي المحلية، وأحسبه يتصدر قائمة انشغالات الكتاب لسنين طويلة، لكن الترهل الذي أصاب هذا القطاع الحيوي منذ أجيال، سرب من قلمي منسوب الأمل _وهذا من تقصيري_ بقدر ما سرب إليه من نفثات اليأس من التغيير. ليس الأمر أني أتهم من تولى شؤون هذا القطاع -على مدى عقود- بالتقصير والفشل في إنجاز مهامهم، لكني لا أبرّئ هؤلاء من تجاهل ما هو أهم من الإنجاز، وهو مراجعة الإنجاز، واختبار مخرجاته، لتجاوز الإخفاقات، والبناء على النجاحات.

        وما نشهده في حركة التعليم -منذ أمد ليس بالقريب- كان ركضا في طريق مراكمة المنجز بلا انقطاع، وبلا وقفات مراجعة، فمبادرة تتلو مبادرة، وخطة تتعثر بخطوات خطة قبلها، وصار اللهاث خلف الأرقام سمة تكاد تكون علما على وزارة التعليم، وصارت في هذا الركض المحموم كالمنبت لا أرضا قطع ولا زادا أبقى، إذ استند هذا التراكم الهائل من السعي خلف الخطط والمبادرات على حصاد الأرقام، على حساب القيمة العملية لها. نعم، هناك سجل حافل بالتجارب والخطط، لكن ما المخرجات؟ وما وسائل قياسها؟!

 لن أتسنم منبر المختص، ولن أطلق الأحكام وأصادر الجهود لإشباع رغبة النقد فحسب، بل سأتحدث بلسان أمّ لطالبين ما بين التعليم العام والتعليم العالي، كنا ثلاثتنا مواد تجارب في معمل ضخم بمساحة (وطن) يديره صنّاع القرار في التعليم. سأتحدث من موقع ممارس لمهنة التعليم، وباسم مواطن مهتم بهذا القطاع الذي ينتظم فيه كل واحد من مجتمعنا: طالبا، أو والدا لطالب، أو معلما.

نستعرض اليوم حراك شريحة الشباب في مجتمعنا، ونشهد تراجعا ملحوظا في كفايات أبنائنا الطلاب: في محصولهم الأكاديمي، وفي تكوينهم الثقافي. نحن نشهد في طلاب اليوم ظاهرة مثيرة للقلق تتجلى في تخلخل الهوية، وتراجع الانتماء للذات الحضارية، وبدون هذين العنصرين لن توجد الدوافع للإنجاز والتنافس على العطاء، فالدافع لأي نجاح هو الانطلاق من رؤية محددة، والسير على خارطة عمل محكمة تقود لأهداف واضحة. وإن وضوح الأهداف _بالمقابل_ أمر لا يتحقق إلا على قاعدة صلبة من الانتماء لهوية الوطن، هوية توجّه فكر الطالب، وتبث فيه الحماس، وروح المنافسة، هوية تخلق الدافع للإنجاز.

ولهذه الظواهر جذورها في بنية التعليم المعاصر، إذ يفتقد التخطيط للتعليم للرؤية الموحدة، فكل جهة تعمل بمفردها، وكل مجال ينمو مستقلا عن غيره، حيث التخطيط للمناهج يجري منفصلا عن معايير تقويم الطالب، والأخير لا يكاد يتصل بتقييم المعلم، وكلها تعوم في بحر من التنظير يهمل البيئة المدرسية، التي لا توفر الأدوات لتطبيق هذه الطموحات النظرية الفضفاضة.

نحن لم نشهد على الخطط والمبادرات ذات العناوين البراقة (وهذا على مسؤوليتي) نتائج ملموسة، يمكن الاعتداد بها على أرض الواقع، إذ لا يكاد يعمم منهج، وتسخّر الدولة ميزانية ضخمة لتدريب المعلمين على تدريسه، حتى يحدث -باسم التطوير- انقلاب على ما بذل من مجهود. وبهذا المنطق الناقص ينشغل المعلم عن أداء واجبه التعليمي بالركض خلف ما تطرحه الوزارة من خطط يعوزها الاستقرار لتنضج وتؤتي ثمارها، وذلك إرضاء لسلطة التقييم الوظيفي، الذي يعاني بحد ذاته تشوهات ضخمة، كفيلة وحدها بإفشال كل جهد يبذل لإنجاح التعليم، إن لم يتدارك.

وفي هذا السياق خضنا جدلا واسعا عن ساعات النشاط -على سبيل المثال- وتدريس الرياضة للبنات، بين معارضة وتأييد، ونسينا أن مباني المدارس مستأجرة، وأنه حتى المباني النموذجية غير مجهزة لممارسة الأنشطة، فضلا عن الرياضة، فصارت ساعة النشاط ساعة احتجاز للطلاب والمعلمين تُرصد في الكشوف أرقاما جوفاء. وعلى نطاق آخر يحاسب المعلم على سلوك الطالب داخل الصف وخارجه، في حين تفتقر المدارس لخطة للإرشاد النفسي والاجتماعي المتخصص، فليس المرشد الطلابي سوى معلم اللغة العربية أو الدراسات الدينية أو الرياضيات أحيانا.

والشق أوسع من الرقعة، ومساحة المقال بالكاد تتسع لأمثلة غياب الرؤية وخلل الهوية، لكننا نكتب على قيد الأمل في انفتاح نافذة جديدة نتطلع خلالها لانطلاقة جديدة للتعليم، تفتح الشهية للمشاركة في التغيير الذي يستهدف الإنجاز النوعي الملموس.

وإننا مع تصريحات وزير التعليم اليوم نقرأ توجها جديدا للفكر الإداري، متكئا على منظور مختلف للتعليم، يستهدف القيمة العملية، التي تتجسد مخرجات على أرض الواقع، لا أوسمة على الصدور، وشهادات تزين الحوائط. وهذا ما بعث الحياة في آمالي لمستقبل التعليم، وأطلق الروح في القلم، أقول ذلك من دون أن أبخس حق سابقيه.

إننا نأمل أن تلتقط وزارة التعليم أنفاسها، وتتبنى في إدارة التعليم رؤية متحررة من أسر الأرقام، غير منقادة للرغبة في الظهور، وأن تأخذ وقفات لمراجعة أرشيف منجزاتها _وهو مشرف للأمانة_ لكن ليس باختبارات تقييم سنوية للطلاب توضع في الأدراج، بل بتوظيف ذلك التقييم لإعادة هيكلة شاملة تستهدف بناء رؤية شمولية محددة، وأهداف قابلة للقياس، تقود لخطط واضحة المعالم، خطط تتلاقى وتتضافر لتحقيق غايات مدروسة. ومن المهم أن تكتمل دائرة النجاح بالإدارة القائمة على اختبار صحة النظرية بلغة التطبيق.

27/1/2019

ربما يعجبك أيضا