في ذمة الوادي

 تستقبلنا مسؤولة الأمن في ساعة اندلاع الهجير ، نتكوم في البوابة الصغيرة ، لنتسلم بطاقاتنا التي نرهنها كل صباح مقابل حفنة ثقة ، بالكاد تكفي حتى الظهيرة لقطع مسافة نهار جامعي واحد .. تقلّب في الوجوه المشتعلة نظرات باردة ، وتتثاءب بين كل بطاقتين ، ثم تقذفنا إلى لسان الوادي الممتد .. ساخراً نلمحه ، فنشتم النخيل ، ونقطع الممر إلى مبنانا القصي معدّدين آفات البداوة ، مجلجلين في تشفٍّ : الأعراب أشد نفاقا وأجدر ألا يؤمنوا .. لاعنين اضطرارنا لتجرّع غبار الرياض تسعة شهور من كل عام ، في حين يهجرها أهلها معظم شهور السنة .. ونظل نعد على أصابع الأيدي السكان الأصليين لهذه القارة من الغبار ،  لنثبت بمنطق الأرقام كيف أن الرياض ليست سوى صندوق برّاق تتكوم في بطنه المخملي سلاسل من الأحجار الكريمة ، تقذفها الشواطئ للعراء كل عام .. 
   وفي صقيع رمضان حين تطرق أبواب حجراتنا مشرفات السكن يؤذنّنا بوقت السحور بأطباق من التمر الطازج _ ينثال على أصابعنا دفء السحنات النجدية السمراء  .. فنراجع حساباتنا من جديد ، بلغة الكيف لا الكم . كيف استطاع هؤلاء البداة إنشاء كوكب يضج بالحياة داخل هذا العدم الأصفر اللا متناهي ؟! هذه الحياة التي سرقتنا من قواقعنا على الشاطئين  ، ومن بساتيننا في قمم الحجاز ومن سفوح اجا وسلمى ، لنُدمِن إيقاعها في قمة صخبه ، وفي امتداد صمته ، وما أثقل صمت الرياض حين تقرر الصمت !!
   هنا ..  في بقعة من الأرض تخز أحد جوانب وادي حنيفة ، تركت بعضا من وجوهي ، حيث الوادي يمدّ في وجه مباني سكن الطالبات لسانا مبقّعاً بقامات / شامات النخيل .. ساخراً نزورّ عنه في ظهيرةٍ تحمل خيبةً ما ، ومازحاً نشاكسه في أصائل الربيع ، حيث تفقد الخيبات مذاقها .. 
  سنة ونصف سنة من الزمن قضيتها في ذمة الوادي ، إذا لم أستثن فترات الإجازة . أما إذا اكتفيت بحساب العمر الفعلي لعلاقتي بوادي حنيفة فلن يتوقف الحساب أبدا .. وها أنذا أطل من خلف سبعة أعوام وأنا لا أشك في أن شارع البوابة رقم (7)لا زال يتردّد  في جونبه صدى الموال الموسمي : 

تمتع من شميم عرار نجد …….
الموال الذي يكون آخر ما ننقشه على جدرانها في خواتيم المواسم الدراسية ..
………………….
متكئةً على نافذة السيارة ، أواصل تحسس مواطن النبض في المسافة الأثيرية التي تفصلني عن الوادي .. أشاهدني وأنا أتخذ مجلسي بين التوأمين ، والحيرة تدق في رأسي مساميرها ، بين الرحيل إلى الأزل مع مواويل البدو المتنقلين بين امتدادات وادي حنيفة في اتجاهات الزمن الثلاثة .. وبين تلخيص آراء القدماء في أصل اللغة .. ” ابن تيمية ينكر المجاز ، ابن تيمية ينكر المجاز في اللغة ” ، أغالب الشرود بالترداد ، “لا مجاز في اللغة” .. يثور في وجهي أبو تمام : علام إذن اختصم جرير والفرزدق عمرهما كله يا هذه ؟ أتردد في الإجابة .. ثم أفجّر في وجهه السؤال : حدّد إذن أيها اللغوي الحاذق أي الكلمات التالية الأصل وأيها المجاز : عين الماء وعين الإنسان وعين الشيء بمعنى حقيقته … يمتد بيننا الصمت ، ثم أتركه يضرب أخماسا بأسداس .. وأتابع على إيقاع خطوي الرتيب : “ابن جني يرى في اللغة محاكاة صوتية للطبيعة .. القرقرة .. الكركرة .. الهزهزة .. الأزيز “….
تهتز فوق رأسي نخلة ، وتصطفق سعفاتها .. يفزع عصفور بالجوار فيطير في اضطراب باتجاه السور .. يصطدم به وتفرقع قطرات من الدم .. يسرقني المشهد من الأوراق في يدي .. يأخذني إلى نهايات منيف .. خثرات من الوجع تبدأ في التكوم بين تلافيف الوجدان .. أسارع الى نبشها لتتنفس .. فتنسرب شخصية عساف من جوفها .. عساف وهو يفلسف الصيد .. عساف وهو يمتشق فِراسته كصياد أسطوري ، ليقتنص اتجاه سرب القطا .. ثم عساف والرمل يغطي ساقيه .. أترك الجاحظ يجادل ابن حزم في نَسَب الكلمات .. وأغيب مع عساف في مجاهل الصحراء على أطراف الطيبة .. ثم أضم أوراقي وقد انبلج الصبح عن سواد 10 ورقات .. وهدنة غير موقوتة بين تعهدات النهار وسبحات السحر ..
منذ نهاري الجامعي الأول داوم الوادي على اختطافي كل ليلة من بين أكوام أوراقي . ولم أكن وحدي ، فقد كنت أصادف على مدرّجاته الحجرية صفوفا من الوجوه الساهمة .. وحين أعود إلى أوراقي بعد جولات السّحَر مغموسةً في السكينة .. كنت أراقب في فتور حركة السطور ، وهي تتجه إلى أبعد نقطة عن القاعة التلفزيونية التي يفترض أن أقرأ فيها ما سيكتب .. ثم من أغوار السكينة ينبجس القلق في خصام يومي بين قرارات النهار الصارمة وتعهدات بالالتزام .. وبين سبحات الليل مع مواويل الرعاة التي تتردد بين أسوار السكن ، قادمة من أطراف الوادي البعيدة ..
………………..
ليلة أخرى تطل من ثغر الوادي ، وهو يهز فنجان الزمن ، مؤذنا بإغلاق ستار السمر ، ويشير إلى خيط من النور يعرف به ميقات إقلاع طائرتي ، في مثل هذا الأرق من كل عام ..
كنا مجموعة بقيت وفية لجولات السحر ، حين أقفرت رهبة الامتحانات مدرّجات الوادي .. تناهت لأسماعنا رقصات أيادٍ رشيقة على الدفوف ، فتلاصقت أجسادنا وقد اكتسحتها القشعريرة .. شيءٌ ما كان يمنعنا من التسلل إلى غرفنا والاحتماء بجدرانها من سيل الرعب الهادر ، القادم من بطن الوادي .. وانقضى زمن قبل أن نعرف سرّ الليالي الخريفية الصاخبة .. حيث يفيض الصخب على أسوار السكن من قلب الفاخرية ، من أطراف قصرٍ هارب من مدن ألف ليلة وليلة ..
هدأت الأصوات ، ودخلت الغرفة ومعي ضيفة أبيت أن أسلمها وحيدة لخواء غرفتها في غياب الساكنة الأخرى .. وقبل أن أجلس أخذت أحكي وأنفاسي تتلاحق أحداث الليلة الماضية دون أن أحفل بتثاؤبهما المتكرر ، وعيوني مشدودة لقرع الدفوف الذي لم يبارح رأسي .. ” وبعدها تدفق السكون .. السكون .. ” وما إن همست بهذه الكلمة حتى شهقت شريكتي في الغرفة بالمعوذتين .. فانطلقنا ثلاثتنا في ضحكات من أقصى القلب ، ضحكات ذهبت بنا إلى ساحات بيوتنا على سفوح الحجاز الجنوبية .. حيث كانت جداتنا يزفيننا للنوم على بساط من الرعب يطرزنه بإشارات غامضة لـ”السكون”* ، متعوذات ونافثات في جيوبهن ، حيث البياض المكتنز بالبياض .. ثم لا ينسين أن يختمن الحكايا بالتنبيه لميقات قدوم “حمّال الضُّمود”* الطيف الذي تكبر الصغيرات ولم يحددن بعد ملامحه الفانتازية ليرسمنها للأحفاد حين يجيء دورهن في الحكي ..
في تلك الليلة الخريفية انطلق أول خيط في نسيج حكايات جنيات الوادي .. عوالم أخرى استنبتها الفراغ الذي تنثره الغربة في مخيلاتنا الصغيرة .. وحشة الأسحار ، والحواجز الممتدة حول كل منا تعزله عن الآخر .. القبيلة ، اللهجة ، الطبقية المادية ، شبح التفاحة الفاسدة ، وحتى الزيّ كان يجعل من لابسة العباءة فوق كتفيها منبوذة في شوارع الرياض ، الرياض التي أخرجت أول مخرجة سعودية وأول طيارة سعودية وربما أول راقصة سعودية .. الرياض التي لا تعرف عدد وجوهها …
………………….
يتثاءب الوادي الوقور في بطن الفلاة .. وهو يقلب صفحات سجلاته ، يحاول أن يسترجع ملامحي ، ينثر الوجوه على بساط الحكي .. حين لمحته للمرة الأولى كنتُ سرا أودعَتْه أمي صدر الوادي … حين أطلّت معي على صفوف النخيل في ليلة تعارفنا الأول أنا والوادي ، انتابها مسٌّ من الطرب ، غسلتْها بهجة شفّافة من وجوم اكتنف مشيتها منذ دخولنا أنا وهي ، نحمل حقيبة ملابس ، وسجادة ملفوفة على لباس أنيق للصلاة .. ألقت لي أمي ليلتها بطرف حكاية تشرح عبرها كيف صارت النخلة عمّتنا ، ثم قطعت حكايتها كي لا يسرقها الوقت قبل أن تنهي وصيتها للنخيل .. لمحتُها توشوش نخلتين متعانقتين تستند على جذع إحداهما نخلة عجوز منحنية الظهر ، ولم أقطع رحم التوأمين بعد تلك الليلة ..
ماذا أحكي عن وادي حنيفة ؟! وبأي الوجوه أبدأ حين أرسم ملامح العمر الذي استودعتُه التوأمين ؟! هما ساعتان بقيتا لي في ذمة الرياض .. إحداهما بالكاد تحملني إلى مطار الملك خالد ، حيث أيمم وجهي شطر البحر ، في دورة حياة أخرى ، لا أعرف بعد إلى أي المنافي سيقذفني .. والساعة الأخرى منذورة منذ سنوات سبع ، وفي مثل هذا الأرق من السنة ، لتقّلني للفاخرية ، أنصت إلى أصداء وداعات متراكمة عند البوابة رقم 7 ..
.
.
تمتّع من شميم عرار نجد

  • تمتّع من شميم عرار نجد
    تمتّع من شميم عرار نجد
  • تمتّع من شميم عرار نجد
  • تمتّع من شميم عرار نجد
  • تمتّع من شميم عرار نجد
    .
    .
    فما بعد العشيّة من عرار
    فما بعد العشيّة من عرار
    فما بعد العشيّة من عرار
    .
    انتهت

ربما يعجبك أيضا