عكاظ 2008
تحدثنا سابقا عن قرار ضم الكليات والمعاهد العالية للتعليم الجامعي العالي، وعن مبررات هذا القرار وأهدافه البعيدة المدى، وكنت قد تلقيت العديد من الرسائل تفاعلا مع هذا الموضوع، من أشخاص يعون جيدا كون نهضة أي بلاد تقوم أساسا على التعليم، من طلبة وأعضاء في الهيئة التدريسية وموظفين في تخصصات مختلفة. ويمثل ذلك الانتقال جزءا من خطة شاملة لتطوير التعليم العالي، الذي يعلم الجميع كيف تمثل ميزانيته رقما ضخما يحتل إحدى المراتب الأولى من الإنفاق العالمي على التعليم، وكيف أن هذا الإنفاق لا يتوازى مع واقع التعليم الذي يعايش الجميع مشاكله المعقدة والمتراكمة بلا حلول جذرية، وقد صدمنا جميعا منذ فترة حين وجدنا أنفسنا في ذيل قوائم التصنيف العالمي للتعليم العالي. إن هذه النتيجة تضعنا في مواجهة مع أنفسنا ومع مسؤوليتنا الجماعية تجاه هذه الظاهرة، فجميعنا مسؤول عن التقصير، وجميعنا مطالب بالعمل وتلافي التقصير السابق مهما كانت ضخامته.
وخطط التطوير الشامل للتعليم تمر الآن بمرحلة اختبار كونها في مراحل التنفيذ، وتحتاج لمتابعة من جميع المعنيين، ويفترض أن تكون مرسومة وفق مراحل وخطوات منظمة، تعتمد على خارطة دقيقة توزع المسؤوليات بوضوح وحسم، وقبل ذلك كله ينبغي أن يتم شرح هذه الخطط وأهدافها للمستهدفين، وتمهيد الأرض الملائمة لتنفيذها وتحقيق أكبر قدر من غاياتها، ومن ثم مراقبة تنفيذ تلك الخطوات ومتابعتها حتى النهاية، فليست المسألة مجرد قرارات تنفذ بعشوائية دون تقدير حجم هذه القرارات ومساحة تنفيذها وأثرها الرجعي. و ينبغي أن يتبادل الجميع تجاربهم وخبراتهم السلبية والإيجابية، ويتم نشرها على السطح ليستفاد منها، وفي هذا الشأن لقد كان من نتائج انتقال مسؤوليات إدارة الكليات من وكالة الكليات للجامعات ضياع المعاملات بشكل ملحوظ على مستوى المملكة شرقا وغربا شمالا وجنوبا، بحكم أن الوكالة المركزية كانت تدير كل مناطق المملكة من الرياض، وتمت إعادة كثير من الإجراءات التي كانت على وشك الانتهاء، وكان ذلك نتيجة الانتقال غير المنظم، وعدم وجود اللجان التي تشرف على تنظيم هذا الانتقال وتراقبه قانونيا.
والآن وقد استقرت الأمور الأساسية إداريا، بدأت تظهر بوضوح العديد من المشاكل الداخلية، فهناك عثرات كبيرة في تطبيق هيكل النظام الجامعي على مختلف نطاقات الجامعات الجديدة، من أهمها التناقض والازدواجية والغموض في الكثير من القرارات التي تحكم سير العملية التعليمية، وما ينتج عن ذلك من آثار تنعكس على العملية التعليمية التي هي الهدف الأساس من كل هذا المجهود والتخطيط بعيد المدى، والتي تكاد تضيع موقعها وسط هذه الفوضى العامة، حيث يجري التركيز على قشور خارجية لا تنتظم في سلسلة منطقية مقنعة، ويتم تجاهل الأولويات والأهداف الأساس. فبينما تحرص جامعة الملك عبد العزيز -على سبيل المثال- على إرسال التعاميم والقرارات المتتابعة لكليات التربية للبنات، لا نجد مثل هذا الحرص على توفير الأجهزة اللازمة وكثير من المستلزمات الأساسية التي تعاني تلك الجهات من نقص حاد فيها، والتي تمثل أولوية واضحة، ليس على رأسها افتقار تلك الكليات لأهم مقومات التنظيم ومستلزمات قاعات الدراسة الأساسية. هذا إلى جانب معاناة هذه الجهات من انعدام وجود خطة تعليمية واضحة الأركان والأهداف والمناهج والنتائج، والرقابة والمتابعة للجودة وللجدوى، وبناء عليه التطوير والتحسين وعلاج الأخطاء، ولعل ذلك راجع إلى اضطراب موقعها السابق بين التعليم العام والعالي. ووسط هذا الغموض الكبير يكاد ينعدم التحديد والوضوح والجزم لمهام كل فرد وواجباته بحسب تصنيفه الوظيفي، الذي تقرره قوانين العمل المعمول بها في الدولة، والتي على أساسها يعرف كل فرد واجباته وأولويات مهمته، وعوضا عن ذلك تترك هذه الأمور عرضة لقرارات شخصية متضاربة وغير مسؤولة، بعيدا عن متابعة الجهات المسؤولة ، وهي أمور يحكمها التخصص والخبرة التعليمية والعملية التي ينبغي عدم إهدارها في غير محلها، بل الاستفادة القصوى منها لصالح التنمية التي تحتاجها بلادنا وتعيش أدق مراحلها، فمن يتحمل مسؤولية هذا الهدر الذي تتعرض له خطة شاملة وجذرية بحجم خطط تطوير التعليم؟
الحل من وجهة نظر عملية هو تشكيل لجان من جهة الجامعات ووزارة التعليم العالي، مهمتها أن تشرف على تنفيذ الأنظمة على مراحل تدريجية ، منظمة وواضحة، وشرحها لمن يجهل بنودها، فلكل خطة أهداف يجب أن تحققها، وعدم تحقيق هذه الأهداف ينسف جدوى الخطة من أساسها. هذا ما تنبهت له جامعة الدول العربية مثلا وهي المؤسسة التي تضم دولا لها ثقلها ومصداقية منطقها، حيث لم تسلم مع ضخامة مسؤولياتها وعراقتها كمؤسسة سياسية، من فشل كثير من الخطط بسبب افتقارها لعامل الرقابة، والمتابعة لما بعد زمن النطق بالخطة والقرار، وبناء على ذلك تم إنشاء لجان خاصة ومستقلة لمراقبة تنفيذ الخطط والأنظمة والقرارات التي تصدرها الجامعة، من قبل الأعضاء. ومن الطريف أن تتشارك جامعاتنا مع الجامعة العربية ، ليس في الاسم فحسب، بل في المشكلة القابعة في مركز الإدارة والتخطيط، مع أننا منذ سنوات نتغنى بالجودة الشاملة ونتخذها شعارا لنا، فلعلنا نمضي قدما لنشاركها نظرتها الواقعية العملية الحازمة كما يمثلها مشروعها الأخير الذي أصبح حديث الجميع ومحط آمالهم. رجاء نرفعه من أصحاب الشأن لأصحاب الشأن، ونحن على أبواب فصل دراسي جديد، والله من وراء القصد.