الحريم الثقافي بين الثابت والمتحول

الحريم الثقافي بين الثابت والمتحول : ”طقوس لجلد الذات“

منذ زمن وأنا أحاول الكتابة عن مؤلَّف الكاتبة الصحفية : سالمة الموشي “الحريم الثقافي بين الثابت والمتحول” ، لكنها شروط الكتابة الصعبة في عالمنا العربي كما يعرف الجميع ، حيث الجميع مشغولون بأولويات الحياة اليومية . وفي مشهدنا الثقافي المحلي يزداد الأمر صعوبة حيث افتقاد أبسط حوافز الكتابة ، فلا نشاط ثقافي فاعل ، ولا حوار يثير شهية الكاتب لطرح ما عنده ، ناهيك عن كون الكاتب امرأة ، حيث هي تعيش على فتات الموائد الثقافية الذكورية الخالصة لوجه المظاهر والشكليات ..

ولمن لا يعرف سالمة ( وأشك بأن هناك من لم يصله على الأقل عمل من أعمالها الصحفية الجميلة ) أوجز هنا : سالمة الموشي كاتبة صحفية ناشطة ومتوهجة ، تسعى بجمال واحتراف لتحقيق ذاتها في هذا المجال ، كما أنها انضمت مؤخرا إلى طاقم العمل بالقناة السعودية الإخبارية ، التي تضم عددا من المتوهجين والوجوه القادمة بقوة .

المهم أن هذا العمل الجريء والجميل للإعلامية المتوهجة سالمة الموشي ظل يلح على ذهني ، دون أن أجد الظروف الملائمة لمناوشته ، لكنّ شيئا ما أعاد الموضوع لواجهة الأجندة . وأعني على وجه التحديد ما يثار اليوم حول وضع المثقفة السعودية ، من أسئلة دون إجابات ، موجة التغيرات التي تعم الوسط الثقافي من خلال منابر وزارة الثقافة والإعلام ، وما تبشر به من فرص لتحسين أوضاع المثقفة إلى جانب المثقف على صعيد واحد ، يضاف إلى ذلك ما تشهده الساحة الثقافية من كثافة إنتاج المثقفة السعودية في الآونة الأخيرة ، مع تنوع النتاج بين شعر وسرد وإعلام وتشكيل وموسيقى … كل هذه الأمور أعادت إلى ذهني ما طرحته الموشي في الحريم الثقافي بقوة والحاح ..

حين اطلعت على الكتاب ، بعد أن هزتني بقوة ردود الفعل الواسعة التي أثارها على الصحف والمجلات ، وحتى في مواقع الانترنت الجادة ، اقتنيته وأنا أنوي أن تتقبلني سالمة ضمن جمهورها المنبهر بجرأتها المتوخية للإنصاف في عملها هذا . وينبغي أن أقول إنه مهما امتدت مائدة الاختلاف مع الكاتبة ، فإنني أحتفظ لها بإعجاب كبير بجديتها في معالجة الموضوع ، وتحريها الدقة والإنصاف في تعبيرها عن وجهة نظر أصيلة ، هذا مع حرص الموشي على توظيف كل الأدوات التي أتيحت لها في سبيل بناء هذا الإطار الجاد لعملها من كل زواياه .

جاء تساؤلي الأول من اطلاع سريع على الطابع التوثيقي للكتاب ، وهو طابع شبه أكاديمي ، يوحي إلى القاريء (إن تحدثنا عن الأعمال الجادة المحكمة) بأنه سيجد عملا منهجيا قائما على إطار نظري قوي ، وعينة بحث مشتغل عليها جيدا ، لكنني بعد توغلي في الكتاب وجدت ما يتناقض مع آليات العمل وابحث المنهجيين ، في أبسط صورهما . ويكفي أن أشير بسرعة إلى العناوين الملغمة بالمجازات ، والتقارير الإنشائية والمتخمة بدورها بالمجازات ، التي يتم تذييل العينات المدروسة بها ، فضلا عن كونها تكرر في كل مرة بما يتعارض مع الطابع المنهجي شبه المتعاقد عليه بين الكاتبة وقارئها ، عبر مقدمتها وتصريحاتها في ثنايا الكتاب .

بعد أن احتدمت مع سالمة في تفاصيل بطلات نصها ، وتمثلها قائمة المبدعات السعوديات بلا استثناء ، رأيت أن أؤسس عقدي الخاص معها عبر مفهومي الشخصي لحركة النص . رأيت أنه يمكن أن نتعامل مع “الحريم الثقافي” أولا من جهة كونه خطاب . ومن هذا المنظور يمكن تصنيفه بكونه خطابا عن الكتابة النسوية وبصوت نسوي ، وهو خطاب يدرس الكتابة النسوية بوصفها خطابا أيضا . ولعل أبسط ما يشار إليه من دلالات مفردة الخطاب ، المحمول الاجتماعي له ، وغلبة العامل الغائي على أدوات تشكله كنص ، الخطاب باختصار كما أستعمله هنا هو نص موجّه ، بكل ما تتوفر عليه دلالات هذه المفردة من إيحاءات .

بهذا المعنى يمكن أن نراقب كيف تدلف الكاتبة إلى الكتابة النسوية ليس من باب النقد الأدبي ، وإنما تتوسل لدراستها بأدوات النقد الثقافي ، التي يبدو أنها تقتبسها كلية من أعمال الدكتور الغذامي لدرجة الاستنساخ .أقول هذا وأنا آخذ لها العذر ، ففي وسط نقدي قاحل إلا من بعض غيمات متباعدة بين فترة وفترة ، لا يجد الكاتب خيارات عديدة في الأفق ، لا سيما إذا كان يطل من باب الاجتهاد الشخصي ، غير المدعم بالتخصص . هذا إذا تجاوزنا كون الدكتور الغذامي يصنع وجوده الخاص ومصداقيته لدى القراء بمختلف أطيافهم ، من خلال نزوله إلى معترك الوسط الإعلامي ، وتفاعله داخله ، بعكس بقية المشتغلين بالثقافة من الأكاديميين المعتزلين في معمل البحث ، أو المختطفين من هذا المعمل بعد أن استنفدوا أغراضهم الشكلية البحتة من خلاله . هكذا يحافظ الغذامي (دون أن يمكن أن يلام)على بقائه في الواجهة الإعلامية ، رمزا أوحدا للنقد السعودي لدى عامة الجمهور أو الجمهور العامي سواء بسواء .

وفي هذا الإطار تجيء إطلالات مقولات الحداثة معلبة ، محتفظة بكامل تناقضاتها في تضاعيف ” الحريم الثقافي ” ، سواء من خلال منجزات الدكتور الغذامي ، أو من خلال رجوع الكاتبة لمراجعها النظرية الأخرى من باب التنويع على الشيء نفسه . وبدءا من العنوان والمفهوم المغلوط للثبات والتحول وعلاقته بالتطور ، توقفت الكاتبة عند زمن تجاوزه الفكر الحداثي نفسه  بكثير ، فلم يعد الثابت والمتحول نقيضين معياريين معتبرين في الفكر النقدي بمختلف وجوهه ، ولا حتى في الحوار الفكري الفلسفي الذي نشأت في أحضانه الحداثة تاريخيا ، نشوءا طبيعيا في زمنها وأوانها ، ومن ثم انقلابها على نفسها ، كما يحدث لأي فكر نما بطريقة طبيعية ، على مدى قرنين أو أكثر من التجريب في مختلف وجوه الحياة ، إبان مرحلة التنوير في أوروبا ، وما صدرته إلى جهات العالم الثمان . وقد انتهى زمن الحديات الواضحة بين المتقابلات ، انتهى تقريبا زمن الثنائيات والمركزيات ، ويفترض أننا نتقلب الآن في نعيم التعددية واحترام الخصوصيات ، فيما لو تركنا فكرنا ينمو بطريقة طبيعية كما يفترض له .

ثم رفعت الكاتبة لواء العقلانية وانتفاء الذاتية في الحكم ، كتعهد تلتزم به في عملها ، كررته أكثر من مرة وأكدت عليه . وذلك أيضا أحد مظاهر حضور الفلسفة الحداثية ، في أقدم صورها وطموحاتها في مطالع عصور التنوير ، وهو أيضا امتداد لضعف المرجعية المنهجية في الكتاب ، بتبنيها محورا واحدا ، مقولبا وجامدا . ودعوى الموضوعية هي فرضية منتهية الصلاحية ، حتى في أدق العلوم التجريدية  البحتة وأكثرها صرامة . وقد يفيد أن أذكر -على سبيل المثال- أن من أهم قواعد علم المساحة التي يعلمها الأساتذة في الهندسة ، أنه لا يمكن أن تتطابق قراءتان مساحيتان ، حتى للشخص نفسه . وأن الاختلاف الذي لا يرى ولا يحسب بالعين المجردة في قراءات المساحة ، لا يظهر أثره في الحالات الفردية ، أو المشاريع المفردة ، بل يبدأ في التضخم وتصدير آثاره العملية في المشاريع التراكمية الطابع . وهذا بالضبط ما حدث في مشروع سالمة الموشي في قراءة الإبداع النسوي ، والحكم عليه كله من ألفه لى يائه بجرة قلم واحدة ، حيث انطلقت من فرضية واحدة ، كان يمكن أن تكون مجدية ومقنعة فيما لو تم تطبيقها على عمل أو اثنين ، أو حتى على مبدعة أو مبدعتين ، لكن ما حدث هو أن سالمة بنت كتابها على فرضية واحدة ، وقراءة واحدة تكررها مع كل منتج إبداعي ، ومع كل جيل . وصاغت منها حكما قطعيا ، تنهار على أساسه كل دعائم الكتابة النسائية المحلية ، بكل تاريخها ، ويتم تفريغها من الفعل الثقافي الذي مارسته على مدى عقود حافلة بحكايات النضال الفردي والجمعي .

بهذا المنطق النسقي تعاملت سالمة مع الكتابة النسوية لا بوصفها قولا فنيا بل بوصفها خطابا اجتماعيا ، وهو أمر لا ينكر عليها في إطلاقه ، فالنقد النسقي علم قائم بذاته ، لكنه علم له قواعده ومنهجيته الخاصة ، وليس قريبا منها أبدا اختزال نتاج أجيال من العمل الإبداعي ضمن دراسة واحدة ، ولا الانطلاق من فرضيات مسبقة ، ولا إلغاء فردية النصوص . بل إن المحور الرئيسي الذي ينطلق منه النقد النسقي هو عامل التفرد ، كيف يتميز النص كخطاب وسط نسيج متشابه . ولعل انطلاق سالمة نظريا من هذا المبدأ النسقي ، حين طالبت المبدعات بأن يصنعن عوالمهن الخاصة ، لا يغفر لها نسف هذا المبدأ عمليا في تفاصيل عملها على قراءة المنتج الثقافي النسائي .

وبكلمة مفردة ، حاكمت الكاتبة منجزا إبداعيا له تاريخ وحضور ، دون أن تمر ولو إشارة إلى بداهة نقدية تقرر أن النص الأدبي نص موجود بقدر ما هو متفرد ، وأن فرادته أوسع من مساحة منتجه ، بل هي تمتد لتتحق بوساطة التأويل بعدد قراءاته. وأي حكم عام يتعارض مع هذه البداهة – لا سيما بهذه الجرأة ومن منطق مصادرة – يعرض صاحبه للمساءلة بشأن مصداقيته ، ومدى تماسه الفعلي مع النصوص . وهذه ثغرة تدفع للسؤال عن العتبة العالية من الخبرة ، التي سمحت لها أن تشرف من فوقها على تاريخ إبداعي بنظرة واحدة . علما بأن هذه المساءلة لا يمكن أن تعد من باب التجني ، فكاتبتنا هي التي رفعت لواء المنهجية والموضوعية ، وجعلته معولا لهدم جبل من الإنجاز فوق أرواحنا .

ويبدو أن الذي حدث في الحريم الثقافي أن الفكرة كانت حاضرة مسبقا ، ومن خلال حكم مسبق تم تشكيل إطار نظري حشرت فيه قبيلة من النصوص دون احترام لخصوصيتها الإبداعية . ولعل من المضحك المبكي أن نعترف أن هذا ما يحدث غالبا في الرسائل الجامعية ، حيث يكون الطالب ملزما بوقت محدد ، لينال ورقة تشهد بأنه اجتاز جسرا لدعوى جديدة ، تتيح له خوض غمار الحياة ذات الاشتراطات الشكلية الفارغة في مجتمعنا . تجده يحشر كل ما يعرف كيفما يكون ، ويلقي بنفسه في وجه المناقشة التي تسير عادة في الشروط الشكلية ذاتها ، ويخرج لنا بهذه الطريقة آلاف الأكاديميين والأكاديميات ،  من جامعات تعاني من مشاكل علمية ضخمة لتخريج طالب جامعي جيد فضلا عن أكاديمي وباحث فاعل . هذا مع
أنه من المفترض أن نكون في الحريم الثقافي مع كتاب يفترض أنه نال كل شروط الكتابة الحرة من القيود ،  بحيث يكون سياحة فكرية حرة خالية من التوتر ،  فلا مبرر لكل هذا الحشد من النصوص والمراجع والإثباتات .

إن هذه الحدة والانفعالية في لغة الكتاب وأحكامه هو نتاج تلك الذاكرة الحريمية التي أسس على مهاجمتها، مع استبدال النزعة البكائية بالنزعة للصراخ بما يشبه طقوس الندب التي ليس أقلها التعري وحلق الشعر ، يتبدى التعري باعتراف الكاتبة بل بمفاخرتها أنها تعري نتاج بنات جنسها ، أما حلق الشعر فألمسه في دعوتها للتنصل من الخصوصية والانمساخ ، بغرض الاندماج في كلٍّ ، تصفه أكثر من مرة – ضمن مسلسل تناقضات طويل –  بأنه آخر مغاير. وذلك في سبيل الفوز بمساواة يعبر عنها  سؤال الكتاب الجذري : لماذا لا نزال آخر ؟  وهذا التشنج في نظري إذا سمحت لي الكاتبة أن أستعين بفرويد شكل تعويضي لشعور حاد بالنقص ، تم إسقاطه بإلحاح على الإبداع النسائي ، وهو ليس أقل إن لم يكن أشد تجذرا فكريا مما استعرضته الكاتبة تحت سمت ذاكرة الحريم من كتابات مفردة . ذلك التشنج والانفعال تمثل في تكرار واجترار لمقولات الكتاب بما يشبه تماما نمط الندب وإيقاع النواح مع استبدال مساوئ الميت(الإبداع النسوي) بمحاسنه . ولعل هذه النزعة الانفعالية التي تتعارض مع كل دعاوى المنطق ، واشتقاقات العدالة المنثورة عشوائيا في الكتاب ، هي التي تفسر ما يحفل به الكتاب من تناقضات كثيرة .

في الختام أقول إنني تساءلت حين انتهيت من الكتاب: ماذا لو لم تتسرع سالمة في إخراج هذا العمل ، وتركته ينضج على قراءات متنوعة ، وتفاعل حقيقي في الوسط النقدي ، وفي خضم المنهجية ؟ ! ماذا لو تأنت في إصدار كتابها الأول في هذه السن المبكرة ؟ وهي ظاهرة تناولها معظم من تناول الكتاب ، وجعلها بعضهم – بفجاجة وضحالة- ميزة ، على أساسها يتم دفع الكثير من العقول المنتجة المبدعة للتعثر ، إن لم يكن التشوه ، منساقة وراء مقولات إنشائية يتبرع بها كتاب بزعم الأبوية الثقافية . وعلى أساسها أيضا تم تفريغ المبدع والمثقف من فعله الحقيقي ، والتعامل معه بمنطق المجاملة والتربيت ، الذي ينطلق من نظرة ظاهرها الانبهار ، وباطنها ازدراء للمبدع واستكثار عمله عليه . وهو منطق لا تحتاجه سالمة ، وأنا أكيدة من أنه أحبط كثيرا من طموحاتها لاختبار نفسها وقدراتها عبر هذا العمل . أقول هذا متمنية أن ننحاز إلى الفعل وحده ، حين نتعامل مع منتج ثقافي ما ، وأن لا ندوس على طموحات المثقف المنتج ، وتطلعاته ، وعبوراته إلى ذاته ، بدعوى أبوية ثقافية فارغة.

ربما يعجبك أيضا