عيون القلب

في مثل هذا اليوم، حيث تصبح النهايات قريبة وملحّة لتحتل أولويات الاختيارات، اعتدت أن أصمت أكثر، وأغمض عيني عقلي قبل عيني جسدي أكثر وأكثر، لكن عيون القلب ليس لها أجفان، فهي لا تستطيع الهروب من قدرها كصفحة لكل ما يمر على عين الجسد وعين العقل، أحاول أن أقلل من حمولتها، لكن أعجز أن أجعلها تمر من مثل هذا اليوم فارغة تماما. ليست القاعدة أن تكون هذه الحمولة ثقيلة وجارحة لتلك العين الشفافة والعاكسة لكل الألوان، أحيانا ترتمي على سطحها الشفاف غشقة صغيرة من قلب الغيم الأزرق الواعد بكل جمال، فسرعان ما تحتويها حتى العمق منها، فلا تغادرها أبدا، وتظل تمطر في داخلها كلما اشتدت مواسم الجدب، تقاوم التصحر، وتطهر الجروح مهما كبرت، فعيون القلوب الطاهرة بيئة منتجة للحياة، جاذبة لكل أشكالها، لكن الجروح حين تتعفن تموت بها قطع من الروح، فلا تعود قابلة للحياة، ولا يعود العلاج لها ممكنا.

عين الجسد وعين العقل أرشيف جامد لتاريخ وجودنا، بل لكينونات وجودنا باختلاف أشكالها، لكن عيون القلب مسرح حي لتلك الكينونات الوجودية، وبيئة خصبة لإبداع أشكال جديدة فريدة من الوجود غير قابلة للتوقع ولا للتكرار. تنام عين الجسد وتنام معها عين العقل لكن عيون القلب لا تنام.

“عيون القلب سهرانة”

أفكر أن أجعلها فاتحة لقصيدة جديدة أهدهد بها قلبي لا لتنام عيونه، بل لتفتح مصراعيها على الحياة، تتلمس نبض الوجود وتبتذل مذاق الموت الكامن في مواضع منها.

       حين تحول الفراش إلى كومة أشواك، عرفت أنه حان وقت الكتابة، لو جربت أن تكتب بعيون قلبك، ستكتشف أن حروفك تخونك باحتراف، فلم يحدث ولو مرة واحدة أن احتفظت بشكلها مسافة السرير إلى المكتب، لكني أمنحها حق التصرف بوجودي تماما، ففيها أكون أنا، وبواسطتها وحدها أعرف ذاتي وماذا أريد، بل أكتشفن لأنها لا تفصح عن نفسها بمجانية أبدا. حين غادرت السرير كانت الحروف تتشكل لتوحي لي بأنها تحمل رسالة إليك، في المسافة الصغيرة بين السرير والمكتب بدأت تفصح عن حقيقة خطتها، حين كتبت السطر الأول ليكون مقدمة لما كنت أفكر فيه، وجدتها تأخذني إلى نفسي، تحدثني عن نفسي التي دائما ما أنساها حتى تكاد تفقد شكلها، ومع الوقت تفقد قيمتها. وجدتها تحدثني عن عيون القلب، وكيف تركتُها بلا رقابة لتجد إليها الخيبات طريقا، وتجد وقتا لتفتح بها ثغرات للعبور، كيف منحت الخيبة جواز عبور من عيون القلب إلى صميم الروح، لينتهي بي الأمر إلى حفرة اللاجدوى، الحفرة التي يكلف الخروج منها في كل مرة عمراً بكامله، فكم عمرا ينبغي أن أهدره حتى أتعلم الدرس؟ كم عمرا علي أن أخسر حتى أحفظ ملامح وجهي، وأعرف قيمة هذا الوجه، حيث هو مجمع معاني وجودي كلها، كرامتي كإنسان أسجد الله لأصله الكائنات، وحمله أمانة لم تحملها الأرض والسموات؟ كم عمرا علي أن أخسر قبل أن تقرر لغتي التخلي عني، فلا يعود هناك دروس، ولا عمر لتعلم الدروس؟

       أظنني لحد الآن لم تتضح الصورة لعين عقلي، حتى تهدأ عيون القلب وتعرف ماهية البقعة التي التصقت بها بفجاجة، وحولت ما حولها لفوضى عارمة، لا يمكن معها لبذرة حياة جديدة أن تنمو، ولا لنطفة وجود جديد أن توجد. أسمع صوت الحروف ترتب أغراضها للرحيل، وهي عادة لا مواعيد لها، ولا حيلة لي إلا أن أنتظر عودة أخرى تمنحني فيها بعض الفهم، وتفتح لي بصيصا من الإدراك لأستطيع تبصر مواضع قدمي، وحتى ذلك الحين.. سأغمض عين العقل وأحرس عين الجسد من عبث العابرين..

الاربعاء 25/شوال/14/ أكتوبر 2009/1430

ربما يعجبك أيضا