المؤسساتية

المؤسساتية

*الوطن، 3، ديسمبر، 2006

ذا كنا سنتحدث عن مؤسسات المجتمع المدني، فعلينا أن نتحدث عن المجتمع أولا، والمدنية ثانيا، فمن حيث مفهوم المدنية، ليس المجتمع المدني مقابلا للمجتمع الريفي، ببساطة، لكنه مفهوم معقد متشابك، يحيل على بنية معقدة من المفاهيم الفرعية، غير أن ما يجمع تلك المفاهيم، كونها تشترك في نقطة مهمة، تجعل من المدنية ممارسة، وليس معنى مجردا. وليس بعيدا عنه مفهوم المجتمع، بل هو أقرب وأوضح في تعبيره عن الحياة كممارسة، فما نفهمه من مفردة مجتمع قبل أي شيء، إحالته إلى مجموعة من البشر من جهة، وإلى العلاقات التي تجمع تلك المجموعة من جهة ثانية.

وهذه العلائقية تتضمن بالضرورة حركة، ومن هنا فالمجتمع المدني، ليس هو ما يمكن تعريفه ببساطة، على أنه ما يحيل على التقنية الحديثة، وما يتناقض مع التخلف التقني.ولا يمكن الحديث عن المجتمع المدني، من دون الوقوف عند علاقته بالدولة، بوصفها المؤسسة الإطار لهذا المجتمع، والتي تسير شؤونه وفق علاقته بها، بصفتها جهة تنظيمية، وبصفتها سلطة. وقد انشغل كثير من الفلاسفة، بقضية المجتمع المدني، منذ جمهورية أفلاطون، التي تخلو من الشعراء والنساء. وبينما المجتمع في ظل الفلسفة الماركسية سخرة للدولة، أصبح في الفكر الرأسمالي، سخرة للفرد. وهما حالتان من التطرف، يتم فيهما إقصاء الإنسان، لصالح المجموع الافتراضي، الذي يمثله جهاز الدولة، أو لصالح ذات متضخمة، تسحق ذواتاً أخرى، وتلغي حقها في الحياة. وليس الأمر هكذا في ديننا الحنيف، فهو الوسط والعدل في كل شيء.
والمفهوم الاجتماعي متجذر في عمق الموروث الديني، ومن نافلة القول أن نتحدث عن شمولية التشريع الإسلامي، واستيعابه كل حاجات البشرية، أفرادا ومجتمعات. نلتفت لمقولة المصطفى، صلى الله عليه وسلم: “الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب”، أو كما قال عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فنجده ينبه على الطابع الاجتماعي لحياة الإنسان. والنص الديني زاخر بأسس المجتمع المدني، بوصفه ممارسة صحية للإنسانية في شتى وجوهها. ونعرف جميعا ما يتضمنه قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء”، وتمثيل المجتمع المؤمن بالبنيان المرصوص مرة، وبالجسد مرة، تتجلى فيه السمة العلائقية، بما تتضمنه من حركة، ومن قيم تبادلية، تميز المجتمع المدني، كما عرفه فلاسفة المجتمع.
المجتمع المدني إذن هو ممارسة، لا قيمة مطلقة، ومن ثم فمؤسسات المجتمع المدني هي بدورها ممارسة لمفهوم المؤسساتية، لا هياكل فارغة. والمؤسساتية مفهوم يشير بدوره إلى مرحلة أكثر تقدما، من صور الحياة المدنية، وإلى مستوى أعلى من التنظيم والمسؤولية، في ممارسة تلك الحياة، فالمؤسساتية تضيف إلى بنية المجتمع المدني، النظام أولا، والمسؤولية ثانيا، والرقابة ثالثا. وفي ظل المؤسساتية، يتم تنظيم العلاقات، والأدوار التي يؤديها الفرد في المجتمع، ويتم مراقبة هذا الأداء، مما يضفي طابع المسؤولية، ومن ثم الجدوى على العلاقات والوظائف المجتمعية. ومن أهم عوامل نجاح تلك المؤسسات، عامل الطواعية، والوعي بجدوى القيم التبادلية، فكل فرد يدرك أن حصوله على احتياجاته، منوط بأداء الآخرين، ولذلك يحرص بدوره، على جودة أدائه لوظيفته.
وفق تلك الأسس، من النظام، والرقابة، والمسؤولية، تمثل مؤسسات المجتمع المدني استقلال المجتمع، وسلطته على ذاته. وبهذا يفترق المجتمع المدني عن غيره. والمؤسسات ليست مجال رقابة فحسب، بل هي ضمان لحقوق الفرد، ولحقوق المجتمع معا، بما تمتلكه من تمثيل قانوني، يتيح تفعيل القوانين، بما يخدم المجتمع. تحتاج المؤسسات -إذن- للاستقلال القانوني، عن أجهزة الدولة، لكن هذا لا يجعلها تتعارض معها، بقدر ما يضمن تكاملهما، وانضواءهما معا تحت لواء الوطن. وحين تسود قيم المجتمع المدني، وتصبح مؤسساته واقعا وممارسة، لا مجرد دعاوى، سيتحقق ما نحلم به. ذلك لأن مؤسسات المجتمع المدني تضمن أداء كل فرد لدوره، بما تتضمنه من وعي بالمسؤولية.
ونعيش هذه الأيام توجها لتشكيل العديد من مؤسسات المجتمع المدني، هيئة الصحفيين مثلا، واحدة من تلك المؤسسات، والأندية الأدبية مثال آخر عليها، لكن إلى أي حد يا ترى، تمثل هذه العناوين حضورا لأي من: المجتمع، أو المدنية، أو حتى المؤسسة؟ الأندية الأدبية مثلا، وجمعية الثقافة والفنون، هي مؤسسات عريقة، عمر بعضها ثلاثة عقود، لكن أين حضورها؟ إنه منعدم لدرجة أنك لو سألت أي مواطن عن تلك المؤسسات، فسيقلب شفتيه، ويهز رأسه، ولن يجد حماسا حتى ليسألك ويعرف، ما جمعية الثقافة؟ وما الأندية الأدبية؟ وهل تختلف عن نادي الهلال والنصر؟ أو عن الجمعية التعاونية، التي توزع التموين للفقراء، في المسلسلات؟

ربما يعجبك أيضا